بأني تكلفتهما تكلفا، واصطنعتهما اصطناعا. قال: لا تنكري شيئا ولا تعذري من شيء، فأنا معترف بأني ملح، وأنا معترف بأني مثقل في الإلحاح، ولكنك تعودت احتمالا لهذا الثقل، وتجاوزا عن هذا الإلحاح، فدعي حديثهما وحديث الغضب والثورة، وحدثيني عن هذا الكتاب الذي لم تكادي تقبلين عليه حتى ألهاك عن كل شيء، وصرفك حتى عن هذه المناظر البديعة الخلابة التي تعرضها عليك الطبيعة عرضا سريعا أثناء سير القطار. قالت: هذا كتاب تعجب إن عرفت أني أقرأه للمرة الخامسة، فأنا لا أعرف كتابا أهون ولا أيسر ولا أمتع ولا ألذ من هذا الكتاب أثناء السفر الطويل، أو حين يلح على الحزن الثقيل. هذا كتاب من كتب كورتلين، قال: هو كتاب (قطار الساعة الثامنة والدقيقة السابعة والأربعين) قالت: هو ذاك، قال: فإني لم أقرأه خمس مرات، لكني قرأته ثلاثا، ولولا أني علمت أني سأصحبك في القطار لقرأته للمرة الرابعة! فأنا مثلك معجب بهذا الكتاب إعجابا لا حد له، والغريب أني لا أدري بماذا أعجب من هذا الكتاب! بمعانيه أم بألفاظه أم بأسلوبه، أم بهذه الصور الرائعة التي يعرضها علينا في غير انقطاع؟ أم بهذا كله مما أعرفه، وما أحسه دون أن أعرفه، فهذا الكتاب عندي آية من آيات الأدب الفرنسي. قالت: وعند كثير من الفرنسيين أيضا، وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد كان أناتول فرانس مشغوفاً به شغفاً عظيما، لست أدري أكان يعده بين آيات الأدب أم لا. وأني لأرجو أنه لم يضعه بين هذه الآيات فقد كان أناتول فرانس يضيق بآيات البيان ويرى أنها ثقيلة مملة، وليس في هذا الكتاب شيء من الثقل ولا الإملال. قال: ومع ذلك فان في هذا الكتاب ألفاظا لا تكاد تحصى وجملا لا يكاد يبلغها العد، وكلها خارج على النحو الفرنسي، مخالف لأساليب البيان المألوف. قالت: فهذا مظهر من مظاهر الجمال في هذا الكتاب، ومصدر من مصادر الإعجاب به، وسبب من هذه الأسباب التي تضطرنا إلى مراجعة النظر فيه. وما رأيك لو أن كورتلين أنطق أبطاله بهذه اللغة الفرنسية الفصحى، وأجرى على ألسنتهم هذه الجمل الأدبية الرائعة التي تجدها في كتب كورتلين نفسه وفي كتب غيره من الأدباء؟. إذا لما وجدت في الكتاب لذة كهذه اللذة التي أجدها الآن، ولعلي أن أعجز عن المضي في قراءته إلى آخره فضلا عن أن أقرأه مرات. إن للغة الفصحى خطرها وقيمتها، وهي مقياس البيان وظرف الأدب، ولكنها قد تسخف وتسمج إذا جرى بها لسان هذا الجندي الذي اتخذه كورتلين بطلا لقصته.