خطب أعظم خلفاء محمد في الناس فدعاهم جهرة إلى تقويم اعوجاجه إذا رأوه أعوج، فرد أحد الحاضرين بقوله:(والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيوف)
رأى عمرو بن العاص أن تفتح مصر، ولم يكن الخليفة عمر ابن الخطاب يرى رأيه. ولكن القائد أقنع الخليفة بصواب الفتح فزوده بالرجال ليمضي في تنفيذ مشروعه، ولكنه تخوف ثانية، وبعث له يسترجعه، وقدر عمرو ما في الرسالة، فلم يفضها، ومضى في سبيله حتى نزل أرض مصر. وأصبح مضيه أمراً لا بد منه
والحادث يدل على عدم الاستبداد من جهة الخليفة، وعلى الاستقلال والاعتماد على النفس والثقة من جانب القائد
ويطول بنا القول إذا ما حاولنا تقصي الحوادث التي من هذا النوع. فلنكتف بهذه الأمثلة للدلالة على أن نشأة العرب المستقلة، وتعاليم الدين الحاضة على الحرية والمساواة والاعتماد على النفس، جمعت في العرب الاستعداد الفطري بحكم النشأة الأولى والتعليم الرشيد، والإيمان القوي بالعقيدة الإسلامية، وحسن تفهمها؛ فسادوا العالم في سرعة أدهشت المؤرخين، ونشأت أمة عربية، قوية الأركان، شامخة البناء
وفي كل عصر، وفي كل بيئة تنجح الجماعة إذا سادت الحرية في تصرفاتنا مع الغير وفي تناول ذواتنا، أعني حرية الجهر بالرأي والانطلاق من قيود التعصب للذات. بهاتين الصفتين نجح العرب وتقدموا وسادوا، وبهما تقدم الإنكليز وقويت شوكتهم وسادوا، وبالاستمساك بهما نقوى ونسود؛ فالتاريخ القديم والحديث مزدحمان بالأدلة على أن التربية الاستقلالية هي أقوى دعائم الأمم، وإذا كان هذا أمرها فما سبيلها؟