تلك الروح الإنجليزية التي استعرضنا بعض مظاهر عظمتها هي التي أبت عليهم الخضوع لتهديد إسبانيا، فلم يخرجهم هول قوة الأرماد (اسم الأسطول الإسباني) عن رباطة جأشهم وكانت الغلبة لهم، وهي نفسها التي أبت عليهم الخضوع لنابليون، وهي التي تلهمهم قبول حكومة المحافظين تارة وقبول حكومة العمال تارة أخرى مع ما بين مبادئ الحزبين من تفاوت، وهي التي جعلت القاضي الإنجليزي مضرب المثل للقاضي الصالح؛ وهي بالاختصار التي وضعت الإنجليز الآن هذا الوضع الممتاز في التاريخ العصري
عبر التاريخ
ضربت المثل بالإنجليز عامدا لأنا نخاطب القوم اليوم في تحديد علاقتنا بهم. وأضرب المثل بالعرب لأني أكتب هذه الكلمة يوم الاحتفال بمستهل العام الهجري
نشأ العرب على الحرية والاستقلال لا يشوبهما إلا خضوعهم لأوهام باطلة وعادات مرذولة؛ فلما تطهرت نفوسهم باعتناق الدين الحنيف تحرروا من قيود العادات والأوهام التي لا تتفق والكرامة الإنسانية
إن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أروع أمثلة التاريخ في استقلال الرأي والصلابة في الحق؛ ولكنه نبي يعمل في حدود رسالته بما يوحي به الله، بيد أنه بث في أصحابه تعاليمه المطهرة للنفس، والملهمة لروح الاستقلال، فكان هذا مع نشأة العرب الحرة السبب في سرعة تقدمهم بعد اعتناق السلام
في أولى غزوات النبي ارتأى وهو في مركز القائد الحربي أن ينزل بقوته في نقطة معينة، ولكن أحد أتباعه اعترض على هذا في أدب وكياسة، فلما تبين للرسول صواب رأي نصيره أخذ به
إن الروح التي أملت على التابع المتفاني في حب نبيه اعتراض رأي هذا النبي، والتي دعت النبي إلى قبول رأي أحد أتباعه، هي روح استقلالية، فلا خشية في الحق من جانب الصحابي ولا تعصب للذات من جانب النبي
لما قبض النبي لم يتحيز أتباعه لأهل بيته ويختاروا أحدهم خليفة، بل اختاروا أبا بكر لأنهم رأوا صلاح الجماعة في ذلك الاختيار، والروح التي أملت هذا إنما هي روح الاستقلال والحرية