للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأنا أورد مثلا آخر أدلل به على ما تربح الأمة من تشبع الفرد بروح الاستقلال. ففي الحادث المتقدم كان العمل شعبياً، وفي الحادث التالي كان العمل فردياً

في سنة ١٨٣٩ نجحت إنجلترا في تأليب قوى أوروبا على مصر لتأمن الخطر الذي توهمته من قيام جماعة قوية على ساحلي البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. انتهزت الفرصة السانحة بتهديد الجيوش المصرية الآستانة نفسها فأقنعت طائفة من أقوى دول أوربا بالاشتراك معها في حمل (محمد علي) على قبول شروط فرضتها عليه، وهو الغالب تحد من قوته، ونجحت بهذا وببث الثورة في سوريا ضد المصريين في الاستيلاء على عكا وفي ضرب الجيوش المصرية بسوريا ضربة حاسمة

فلما تم ذلك بعث القائد العام وهو إنجليزي ضابطاً بحرياً إنجليزياً لاستطلاع قوة المصريين بالإسكندرية، وأبحر الضابط فاقتنع عندما وصل المياه المصرية أن من السهل ضرب الإسكندرية، ولكنه في نفس الوقت علم من ثقة أن البر يموج بقوة مسلحة تسلحاً عظيما، وفكر أن الاشتباك مع محمد علي بمصر قد يجر إلى مثل موقعة رشيد سنة ١٨٠٧ ورأى أنه من الممكن التفاهم مع محمد علي على الشروط التي فرضها المتألبون ورفضها محمد علي، إذا ضمن له الضابط جعل حكومة مصر وراثية، لما أستوثق من ذلك دخل رأساً في مفاوضات مع محمد علي واتفق الطرفان. ولما أنبأ القائد العام بذلك احتج عليه وأرسل إلى حكومته يحتج، ولكن الضابط استمسك بوجهة نظره لأنه أيقن بأنه خدم بلاده ودافع عن هذا الرأي لدى الحكومة الإنجليزية رأساً وانتصر له وزير الخارجية الإنجليزية وأبرم الاتفاق الذي وضع أساسه هو فكان معاهدة لندن سنة ١٨٤٠

والحادث يدل على أن الضابط البحري لم يفهم أنه مجرد أداة بل فهم أنه عنصر فعال في بناء مجد أمته. فلما رأى الفرصة سانحة انتهزها بالرغم من مخالفة هذا التصرف للواجبات العسكرية؛ فلما لم يرض رئيسه عن هذا لم يرهبه سخط الرئيس ولم ينس غرضه ولم يتقهقر وتغلب رأيه أخيراً

نظر الضابط الصغير كما نظرت حكومته إلى جوهر الموضوع لا إلى شكله، والحادث بالنسبة للحكومة الإنجليزية وبالنسبة للضابط البحري دليل على تأصل الروح الاستقلالية وعلى عظم أثر هذا التأصل في صحة الحكم على الأشياء

<<  <  ج:
ص:  >  >>