العالية. هذا بسكال، فكتاباته إما مناظرات اكليريكية حول جوهر العقيدة لا يفهمها البسطاء، وإما أفكار عميقة لا يسبر غورها إلا القليلون. وهذا بوسويه؛ فقد اشتهر ببلاغة تعابيره وقوة عارضته في الخطابة، وكان يسرّه أن يرعد ويبرق فوق الرؤوس المتوَّجة وفي قاعات البلاط، ولكن بروقه لم تكن تصعق إلا الشعب الذي كان يستسلم روحا وجسدا إلى سيروس العصر، فهو مجموعة رواميز في اللغة والخطابة لا أكثر. وهذا أيضاً فنيلون، ففي كتابه (تلماك) وفي المراسلات كثير من الأفكار السامية والمبادئ القويمة كالنفس المتدينة والفلسفة الإنسانية والظرف والعطف وروح الفضيلة، ولكنها صفحات بسيطة لا كتاب للشعب. ثم كورني فهو سياسي مختصر، وقد وقف في مستوى لا يبلغه القلب البشري، وأدبه كناية عن عدة مشاهد وأمثال واندفاعات شعرية لا ترضي الشعب الذي يريد الحياة بالإسهاب في شرح العواطف لا باختصارها، والنفس في نظره هي العبقرية، ونفس كورني كانت في الكلام كنفس تاسيت. ثم راسين، فهذا ولد ليكون شاعر الشعب؛ غير أن شعب عصره لم يكن خليقاً به لسوء الحظ، لأن البلاط الذي اجتذبه إليه احتفظ به ضد الشعب، ولا يوافق هذا من أدبه إلا مأساته:(أستير) و (ثعاليا) بالنظر إلى صبغتهما الدينية، وماعداهما يخص الأبهاء. ثم فولتير وهو روح جبارة استوعبت كل المعارف والعلوم، ولكن لم يخرج عن كونه مزيجاً من روح وعقل ونور ونقد ونعومة وخشونة وهزء وجذل وأحياناً وقاحة. إنه لم يكن قط نفساً وحناناً وحباً وعطفاً وشفقة على البائسين؛ كان فيلسوف السعداء ونبيل الأذكياء وشاعراً ضئيل النور لا يتبينه جداً بسطاء القلوب، يضيء في المكاتب ليخبو في الحقل أو في مسكن الفقير
وإذا نظرنا إلى مؤرخينا لا نجد بينهم من كتب للشعب، فمونتيسكيو كثير العلو، ورولين صالح ولكنه شديد الأمانة في ترجمة الماضي فلا يستطيع مطالعته من كانت ساعاته محدودة
وكذلك روائيونا فإنهم اتخذوا أشخاص رواياتهم من الطبقات العالية وعبروا عن العواطف بلغة الأبهاء المنمقة لا بلغة الطبيعة الساذجة. فلا يصلح منها شيء للشعب
ثم فلاسفتنا كديكارت وملبرنش وكونديلك وكل الحديثين، فمهما أعيد طبع مؤلفاتهم فلا أعتقد أن الشعب يقبل على مطالعتها، لأن فلسفة الشعب هي في الشعور لا في الإدراك، فمنطقه