قديما قالوا:(ان وردة عمر أهيب من سيف الحجاج) ذلك لأن عصا عمر معها يد عمر ومعها نفس عمر، وهي تشع جلالا وعظمة وتخضع أمام أشعتها نفوس الجبابرة، ويحس كل من وقعت عليه هذه الأشعة أنها صادرة من مستودع قوي دونه المصباح الكهربائي، البالغ ما وصل اليه العلم من القوة، وأما سيف الحجاج فمعه نفس الحجاج، وهي تشع من غير شك قوة، ولكنها قوة على الجسم لا على الروح، قوة تخاف وتُرهب ولكن لا تُحترم ولا تحب، أشعة عمر كانت تطاع سرا وعلنا، وأشعة الحجاج تطاع علنا لا سرا، لذلك كفت عمر عصاه، ولم يغن الحجاج سيفه
هذا الاشعاع هو السر في أنك تلي عظيما فيملؤك أثرا ويملؤك قوة، بهيئته، بنبرات صوته، بطريقة تعبيره، بنظراته، بإشاراته، بهزة رأسه، بحركة يديه، فكان في كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا. قد لا يحدثك طويلا، وقد لا يكون لكلامه في الواقع قيمة ذاتية، ولكنه يوقظ نفسك ويحيي روحك، وتبقي رنات كلماته في الأذن الأيام والليالي، تعمل عملها في هدوء حينا وعنف حينا، وأصدقك أني لقيت عظيما من هذا النوع يوما فخرجت من عنده مملوءا حماسة وقوة وحياة، حتى إذا بلغت إلى محطة الترام لأركبه إلى مسافة بعيدة عفت الركوب لأنه يبعث على السكون ونفسي ثائرة، والمشي في شدة القيظ ظهر أنسب لها وأكثر اتفاقا لما هي فيه من نشاط وقوة. إذا ذكرت الآن كلامه لم أجده ذا قيمة، وكثير من الناس يتكلمونه ويتكلمون خيرا منه وأسمى وأعمق، ولكن أحدا منهم ليس له هذا الاشعاع ولا قوته وعظمته. وحدثني من أثق به أن الأستاذ جمال الدين الأفغاني كان يرتطن عجمة، ولم يكن فصيح اللسان ولا سلس القول، ولكن تجلس معه فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ، لانها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا
والرجل العظيم، أو الكاتب الكبير، أو المؤلف القدير، يخرج ما ينتجه كتلة من الأشعة من جنس نفسه. ألست تقرأ المقالة أو الكتاب فيشع عليك معاني مختلفة، منها الهادئ الرزين، ومنها القوي المتين، منها المضحك، ومنها المبكي. منها الذي يأخذ بيدك فيحلق بك في السماء، ومنها ما يدفعك إلى الحضيض، وآية هذا الاشعاع أنك تقرأ المقالة أو الكتاب فيبعث عندك من المعاني ما لا تدل عليه الألفاظ، من طريق الحقيقة ولا المجاز، بل ما بين