للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والحر والبرد يتأدبان في حضرته، والشمس تكسف لطلعته

ومن غريب أمر الناس فيه أنهم يكرهونه من أعماق نفوسهم، ويمقتونه من صميم قلوبهم، ويرون فيه السخافة مركزة، واللؤم مجمعاً فإذا لقوه فترحيب وتهليل، وإعضام وملق، يبسطون ألسنتهم فيه بالسوء غائباً، ويبطنون في مدحه حاضرا، فهو معذور إذ يشعر أن الناس مجمعه على حبه، حتى ليخشى عليهم أن يموتوا به غراما أو يُجَنُّوا به هياما، شهدته مرة وقد أتى عملا شنيعا حتى كان مضغة الأفواه ومعرة القوم، وظننت الناس إن رأوه ازدروه - على الأقل - بعيونهم، وكلموه ببعض شفاههم، واستهانوا بمقدمه، وأقل ما يفعلونه ألا يحلفوا به، وليأبهوا بمقدمه، فما كان أشد عجبي أن رأيتهم - إذ حضر - قد انتفضوا من أماكنهم، وأفسحوا له مجالسهم، وأجلّوا شأنه، واعظموا ورفعوا منزلته فوق من يقدرون فضله ويجلون خلقه

فهو - حتى في هذا - ينتفع بإعظامهم وإجلالهم، ولا يضره كرههم الذي لا يعدو قلوبهم - فكرهم لأنفسهم، وإعظامهم له، وماذا يضيره كرهٌ محتقن وخير منه حب مصطنع، وماذا يضيره سب صادق في إسرار، وخير منه مدح كاذب في إعلان؟ لاشك أنه في كل ذلك ناجح حتى في الكرة والذم

قال صاحبي: وهل تعد ذلك نجاحا؟ لو كان النجاح بقضاء المصالح والأغراض والحصول على المال فحسب، لعددنا السارق يجيد السرقة ويفلت من العقوبة ناجحاً، ولكان أنجح الناس من حصل على المال من أقرب الوجوه ولو كان من أخسها - إن هذا الذي ذكرت قد كسب المال وخسر الشرف، حييت مطامعه ومات ضميره، وخدم من يظنهم كبراء أو عظماء بضعة نفسه ومت حسه، بأي مقياس أخلاقي قسته لم تجده شيئاً، إن قسته بمقياس الفضيلة الباتة الحاسمة لم تجده سعيداً، إنه يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، فان كان الحمار أو الخنزير سعيداً سعيد، وأين منه لذة ذي الضمير الحي ينعم بمواقف الشرف والنبل، ويلذهما لذة لا تعدلها ما ذكرت من مال وجاه؛ إن الرجل الفاضل سعيد حتى في آلامه لأنها آلام لذيذة خصبة، هي كالنار تنضج النفس ولا تحرقها، أما لذة صاحبك فسم في دسم، ونار تحرق ولا تنضج - وبعد قليل من حياته يفقد حتى لذة المال والجاه، وتصبح لذتهما كلذة من يتناول الحلوى صباح مساء تتهوّعُ نفسه وتتقبض شهيته - فان اللذة الباقية الدائمة هي

<<  <  ج:
ص:  >  >>