هذه النظرية. ولقد عرفت الثقافة التقليدية بأنها مجموعة الحالات والملابسات التي ينشأ شعب من الشعوب مكتنفاً بها من حيث طبيعة الأرض والإقليم، وما يتطلب ذلك من العكوف على فن خاص من فنون الحياة؛ وبمعنى أوسع تدل الثقافة التقليدية على العناصر التي ورثها شعب من الشعوب على مدى الزمان من طريق التأثر الطبيعي بالبيئة والمحيط، كما تدل على مجمل ما ثبت في عقليته باللقاح السلالي من عادات وأساطير وعلوم وآداب نشأت بنشأته في مرباه الأصيل. وعلى الجملة نقول إن الثقافة التقليدية لشعب من الشعوب إنما هي في الواقع جماع ما يرث من صفات حيوية، ومعتقدات، وفنون عن أسلافه الأولين
ولا شك عندي في أن ما يبدو على أدبنا الحديث، أعن الشيوخ صدر أم عن الشباب، إنما يرجع إلى ضعف علاقتنا بثقافتنا التقليدية. فإن أكثر الذين اتصلوا بهذه الثقافة لم يتصلوا بها اتصال تفهم لروحها ومعناها وأغراضها ومثلها العليا، وإنما اتصلوا بها اتصال استيعاب لظاهرها دون حقيقتها. وهذا أمر لا سبيل إلى نكرانه. كذلك نلحظ أن هؤلاء، على أنهم لم يتصلوا بثقافتنا التقليدية إلا اتصالاً ظاهرياً، فإنهم عجزوا عن أن يدركوا روح العصر الذي يعيشون فيه ليكون ذلك عوناً لهم على تلوين ما استوعبوا من آثار ثقافتهم القديمة بلون يرضاه أهل هذا الزمن وتقره البيئة التي خلقت من حولها خضوعاً لتطورات العصر نفسه، وهذا أيضاً أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أضف إلى ذلك أن الذين لم يتصلوا بثقافتهم التقليدية، وعكفوا على الأخذ عن الثقافة الأوربية وحدها، قد عجزوا عن أن يخلقوا مما أخذوا عن أوربا أدباً جديداً له طابع معين، بحيث يختلف عن الأدب الأوربي على مقتضى ما في الثقافة من روح ومعنوية، ويختلف أيضاً عن الثقافة القديمة على مقتضى ما تتطلب روح العصر الحديث من فنون وتصورات وأخيلة. ذلك بأن دعوتنا إلى الثقافة التقليدية لا ينبغي أن يدرك منها أننا نريد الرجوع إلى القديم بذاته، وأن نحييه ثانية بصفاته التي عرفناها والتي واءَمت العصر الذي خلقت فيه، وإنما نعني بها أن الثقافة التقليدية يجب أن تكون الأصل الذي يلقح بثمار الآداب الحديثة، حتى نقوى على هضم ما يصل ألينا عن أوربا هضماً يمكننا من تكييف الآداب الدخيلة تكييفاً يلائم وراثاتنا العديدة. وبعبارة أخرى نقول إن ثقافتنا القديمة هي المزدرع الذي نلقي فيه ببذور الأدب الحديث، فما عاش منه فيه فذلك ما نكون قد هضمنا ومثّلْنَا، ومنه نخرج الأدب الجديد الملائم لطبائعنا وميولها