للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبعد. فما هو السبب في الفرقة بين مستأرب عاجز عن كتابة تاريخه بروح جديدة، ومستشرق يكتب تاريخ غيره بروح مستمدة من طبعه؟ السبب أن الأول بعيد عن ثقافته التقليدية التي يتخذ منها مادة للدرس والبحث والاستنتاج والصياغة، وأن الثاني يكتب تاريخ غيره مستهدياً بفطرة مستمدة من ثقافته التقليدية. وإني لواثق أن هذه المقارنة سوف تجعل الذين يجنحون إلى إرضاء ناحية العزة والأنفة في أنفسهم يخففون شيئاً من غلوائهم، وتنزع بالذين لا يتشاءمون من أدبنا الحديث بقدر يجعلهم يرون الحقائق كما هي واقعة، إلى درجة من التشاؤم تنير أمامهم السبيل

لقد بدأت نهضتنا الأدبية الحديثة باندفاع نحو الآداب العالمية، واستمداد من وحي أوربا الجديدة؛ ولو أننا تذرعنا مع الاتجاه الجديد بركيزة تقوم على ثقافتنا التقليدية ووراثاتنا المختلفة، إذن لكان لنا أن نقول إننا أخذنا نشيد بناء ثابتاً على أساس مستمد من فطرتنا. أما وإننا لم نعن العناية الواجبة بماضينا، فأهملنا أمر اللغة حتى خرج المتعلمون من أبنائنا وأكثرهم يجهل القواعد الأولية من لغة العرب؛ ونبذنا آداب العربية، حتى نشأ الجيل الحاضر بعيداً عن استذواق الأدب العربي والوقوف على أسراره، فان دفعتنا الأولى نحو التزود من الآداب العالمية الجديدة هي التي أحدثت ذلك الركس الشديد الذي يتجلى الآن في عجز أدباء الشباب عن خلق صورة من الأدب فيها من قوة الحياة ما يجعلها خليقة بان تصبح عنواناً على روح العصر الذي نعيش فيه

على أننا لا يجب أن ننسى في هذا البحث أن نشير إلى علاقة الآداب من الناحية العلمية بطبيعة الأرض والإقليم والمناخ من حيث أنها بيئة طبيعية، كما أننا لم ننس أن نشير إلى اللغة والآداب القديمة والتاريخ والأساطير والحالات الاجتماعية من حيث أنها بيئة عقلية. أما العلاقة بين البيئتين فبينة لا سبيل إلى إنكارها، أو نكون قد أنكرنا أخص العلاقات التي تفرضها الطبيعة فرضاً على الأحياء وتصبغ بها طبائعهم وأخلاقهم وميولهم وأخيلتهم، وعلى الجملة جماع ما فيهم من الصفات العقلية والنفسية. وإلى جانب هذا ينبغي لنا أن نضع في ميزان الحكم والتقدير عند النظر في مثل هذه العلاقات أن الآداب التي أنشأتها شعوب قديمة إنما هي بنت البيئة وربيبة الوسط، بل إنها خلاصة الطبع وعصارة النفس؛ وإنما تتشكل هذه الآداب بمقتضيات العصور علية، وتتكيف بحكم ما يستجمع العقل من

<<  <  ج:
ص:  >  >>