وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة، فلم يعد هناك معسكران ولم يعد صراع، إنما هو معَسكر واحد ولا قتال. وتعلم الجيل اللاحق من الجيل السابق فاختط خطته ونهج منهجه وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة. وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده، وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافاً طفيفاً، في العرض لا في الجوهر. لا مدارس متعددة تتناحر وتتعاون، وتتعادى وتتصادق، وفي عداوتها وصداقتها الخير؛ ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد على شرط أن تكون البذرة صلبة تتحمل حوادث الدهر وعوادي الأيام.
ويتصل بهذا أن الأدباء عندنا صنفان: صنف نضج وتكوّن واستوى على عرش الأدب، وهؤلاء هم القادة، وهم أفراد معدودون تسالموا وتهادنوا وحرمنا ما بينهم من خصومة أدبية وعلمية، وأصبح كل منهم كالعُشَراء لا تميل إلى النطاح ولا ترجو إلا السلامة. وصنف ناشئ هو في طور التكون، وهو يخشى أن يتعرض لمن استوى على العرش فيبطش به بطشة جبارة ترده إلى أسفل، فلما جامل الكبراء بعضهم بعضاً وخاف الناشئون من الكبراء، ضاع النقد بين هؤلاء وهؤلاء.
ولعل من أسباب ضعف النقد أيضاً السياسة قتلها الله، فقد تدخلت أولاً فنصرت الجمهور على القادة، وعاونت الرأي العام على المفكرين؛ وما كان الجمهور والرأي العام ينتصران هذا النصر لو وقفت السياسة على الحياد، ولو فعلت لكان الحرب سجالاً، ولظل المعسكران في قتال؛ وفي هذا تمحيص كبير للآراء، فيصد الرأيُ العام المتطرفين، ويدفع القادة غلاة المحافظين، والأمة من هذا وذاك في استفادة دائمة. أما أن تدخل السياسة فتبيد معسكراً بأكمله، فكان الضرر كل الضرر. ثم إن السياسة - ثانياً - دخلت في الأدب وقومت الأديب بلونه السياسي، ولم يستطع الناس التفرقة بين موازين الأدب وموازين السياسة، فأفسد ذلك الأدب والنقد معاً. قد تقول إن السياسة تلعب هذا اللعب في الأمم الممدنة ولم يكن لها هذا الأثر، ولكنا نقول إن الأمم الناشئة تتضرر من تدخل السياسة أكثر مما تتضرر الأمم العتيدة، وأكبر مظهر في ذلك أنه ليس بين أحزابها تنافر كالذي بين أحزابنا، ولا ينكل حزب بالأحزاب الأخرى كما يحدث بيننا، فالخصومة السياسية عندهم لا تفقد الصداقة في أغلب الأحيان، وكذلك الشأن في الخصومات الأدبية. أما الأمم الناشئة فلا تفهم من