أهمها أن النقد الصريح الصحيح يحتاج إلى شجاعة أدبية قوية من الناقد، ورحابة صدر من المنقود. وقد حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة الأدبية فأظهروا آرائهم في صراحة تامة ولم يبالوا الرأي العام سواء في ذلك بحوثهم ونقدهم؛ وكانت هذه البذرة الأولى للشجاعة الأدبية في مصر، فألفوا كتبا عبروا فيها عن آرائهم في جلاء ووضوح، وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس، فكان صراع بين القديم والحديث، وبين التفكير الحر والتقاليد، وبين الأدب الناشئ والأدب الموروث. ولكن هذا الصراع انتهى بهزيمة هذه الطليعة من المفكرين، وتعرضوا للخطر في مناصبهم وأرزاقهم، ونالوا من العسف والعنت ما ليس في طاقتهم. وهذا يحدث مثله في كل أمة من الأمم الأوربية، ولكن كان هناك فرق كبير بيننا وبينهم: ذلك أن أصحاب الرأي الجديد في البلاد الراقية إذا أوذوا في العصر الحديث رأينا من مقلديهم وأتباعهم في الرأي من يمدونهم بالمال وبالمعونة، وكم رأينا من المال يجمع ليستعين به من نكب في منصبه بسبب رأيه أو بسبب سياسته، يتبرع به أغنياء اعتقدوا صحة رأيه أو وجاهة سياسته، فعطفوا عليه، وتحول عطفهم إلى اتخاذ وسائل لدرء الخطر عنه فاستمر في خطر شجاعته، وشعر بأن تضحيته يقابلها عطف، وأنه إن ضحى بالكماليات لا يُصاب في الضروريات؛ بل وإن أصيب في الضروريات وبلغ ذلك فقدان القوت فقد ضربت له أمثلة عدة أيام الثورة الفرنسية وقبلها وبعدها، فتأصلت الشجاعة الأدبية، ونمت بذرتها وأصبحت غير قابلة للفناء. أما في مصر فكانت بذرتها هي البذرة الأولى، وشعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم وفي منصبهم وفي مالهم، ثم رأوا أن أتباعهم تخلوا عنهم في أوقات الضيق؛ ومن عطف عليهم منهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، عطف لا يمكن أن يتحول إلى مال أو مجهود. وكان الرأي العام قوياً مسلحاً فتغلب وانتقم وأصبحت له السلطة التامة، وانهزم أمامه فريق المفكرين الصرحاء هزيمة منكرة؛ ولم تكن له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب فاضطر إلى التسليم، بل وفي بعض الأحيان رجع عن رأيه إلى آرائهم، وعن منهجه إلى منهجهم،