روحها ومن عينيها، وحين رأى الأمل يترقرق على شفتيها من ابتسامة رقيقة، خُيّل إليه حينذاك أنه عاش ما عاش من العمر أعمى لا يرى الحياة إلاّ مادة؛ أما الآن فهي عنده روح من الروح، وهي عنده شعاع يسطع في قلبه، فلا يزال يذكي روحه، ويرهف حسّه، ويشعره معنى الحياة الجميلة، ويحبّب إليه أن يعيش عَيْشَه مغموراً في هذا النور الآلهي الذي ولَده السالب والموجب من قلبها ومن قلبه
وتلاقيا على ميعاد. ونظر ونظرت، فإذا عصفوران يتساقيان الهوى على فنن؛ فقال في نفسه:(ما أتعس الإنسان! يقيد نفسه بأغلال المادة والتقاليد، ثم يزعم أنه طليق. ليتنا مثل هذين. . .!) وقال لها وقالت له. وكان كلاماً لا تلفظه الشفاه: من ذا يفهم لغة الطير، أو يسمع نجوى العاشقين عيناً إلى عين؟ إن هذين الطائرين يفهمان من فلسفة الحياة أكثر مما استوعبت عقول البشر. إنهما يملكان الحرية، وفي أيدينا وأرجلنا قيود ذهبية. . .! ومالت على زهرة نضرة من أزهار الحديقة تقطفها، ونظر الفتى فما بدت لعينيه زهرة بل رمزاً من شفةٍ، وخدٍ، وعطر، وخطوة دلال. وأسرع إلى صاحبته: رويدك يا فتاتي، إن هذه الأنامل الجميلة ما خُلقت إلا لتتملّى هذا الجمال وترعاه!
ولما هّما ليفترقا لم يقل لها: يا فتاتي التي أحب. بل قال لها: يا من حبتني الخلود وأشعرتني لذة السعادة على الأرض
ما أعجب ما يرى الإنسان في الحياة! وهل يرى كل ما فيها إلا على ما رُكِّبتْ عليه طبيعته المادية الجامدة؟ حتى إذا ما لمست فِتاة قلبه حالت كل مادة على الأرض شيئاً إلهياً نورانياً، يتلألأ كما انفلق الأصباح عن ليل طويل دامس. وماذا في الشباب إن لم يكن هذا الشباب في القلب قبل أن يكون في نضرة الوجه وتكتُّل العضل؟ حتى الشيخ يرده الحب فتياً! تلك حكمة الله في الأرض
سار الفتى على سننه؛ وذهبت نفسه وراء فتاته، وهي من عقلها لا تخمد العاطفة بالرضى الدائم، ولا تبعث في نفسه السأم بالغضب المستمر. وهو من كبريائه لا يندفع اندفاع الطيش، ولا يُقْصر إقصار الملل. نفسان عُقِّدَتا؛ ولكنهما عقدتا ليكون الحب فيهما عقدة ثالثة. فهي تفور، وهو يتنزّى ولكنهما هما. أراد أن يكون صريحاً فتعقدت له، فلما أرادت أن تكون صريحة وجدته قد تعقد