وأوشاب الناس وأبناء الشوارع كأنه واحد منهم، حيَ حياتهم وتخلق بأخلاقهم. وكان الأدب معواناً له على التغلغل في خبايا نفوسهم، فهو يصف لك خلجات العرابيد وقطاع الطرق والقتلة ومن إليهم، فتحس من وصفه أنك تجالسهم وتنغمس فيهم! وكل ذلك بأسلوب أخاذ وعبارة رشيقة، تذكر القارئ بمواطنه البائس دستوئفسكي
وقد كانت الحرب الكبرى وبالاً على جوركي، فلقد ذاق طوالها من ضروب الفاقة والعوز ما كان تصديقاً من الزمان الصارم على ما جاء في كتبه من وصف البؤس وذكر البائسين! ولما وضعت الحرب أوزارها، وقام في روسيا هذا النظام البلشفي العنيف اشتد الفتك بالناس هناك، وذاق الأهلون - ولا سيما الأدباء - ألواناً من الفاقة والعوز تنفطر من هولها القلوب! وذهب أديب إنجلترا الكبير هـ. ج. ولز ليجول جولة في هذه البلاد التاعسة، وحل ضيفاً على صديقه جوركي!!
وكانت حكومة الاتحاد السوفيتي قد أعدت له قصراً من أفخم قصورها لينزل فيه. . . ولكنه آثر القرب من جوركي إعزازاً للصداقة وإيثاراً للأخاء. . . فلما ذهب إلى منزله راعه هذا البؤس الذي خيم في منزل أكبر أدباء العالم، وهالة العوز الشديد الذي كان يعانيه صديقه. . . فما كان منه إلا أن تولى هو النفقة على المنزل طيلة وجوده فيه!
وكان جوركي يلبس أسمالاً لفتت أنظار ولز، فباسطه وسأله إن كان لديه ملابس؟ فتبسم جوركي وذكر أنه لا يملك غير البدلة الممزقة التي يرى! وكان معهما الكاتب الروسي الكبير (أمفيتياتروف) فانتهز هذه الفرصة السانحة وسأل ولز أن ينزل له عن (طقم) من ملابسه حين يعتزم العودة إلى إنجلترا! وقد فعل ولز، فانه أهدى أكثر ملابسه الخارجية إلى جوركي، وأكثر ملابسه الداخلية إلى (أمفيتياتروف)! ولم يفت ولز أن يذكر هذه الوقائع في كتابه عن هذه الرحلة:
ولقد شب جوركي مع البؤس في مهد واحد، فلقد ولد سنة ١٨٦٨، ثم مات أبوه وهو يحبو على أربع، وكفلته أمه الفلاحة القروية، وعمل خادماً على ظهر سفينة من تلك السفن التي تمخر عباب الفلجا، ثم صار خبازاً فحمالاً فبائع تفاح! وبسم له الحظ فالتحق بوظيفة كتابية في مكتب محام. . . وبرم بالعمل ثمة فهرب إلى جنوب روسيا يذرع الرحب ويطوي الفيافي. . . ثم ظهرت مواهبه فجأة سنة ١٨٩٢ حين شرع يكتب أول قصصه ويبعث بها