بالجمهور، ولم يخافوا الرأي العام، ولم يحسبوا لمقاومة المحافظين حساباً. ونشأ عن شجاعتهم تلك، وعن صراحتهم هذه، أن بعثوا في الحياة العقلية نشاطاً لم تألفه مصر، فكان الصراع العنيف بين القديم والجديد، وكان الخصام الشديد بين الحرية والرجعية، وألفت الكتب ونشرت المقالات وأذيعت الفصول، وأنتفع الأدب بهذا كله واستفاد النقد. وكل هذا صحيح عندي ولاشك فيه، ولكنك ترى بعد ذلك أن هؤلاء الكتاب قد أوذوا في مناصبهم وفي أنفسهم وفي سمعتهم وفي أرزاقهم، فلم يثبتوا للأذى، ولم يمضوا في المقاومة، ولم يعنهم اتباعهم وأولياؤهم على الثبات، وإنما عطفوا عليهم عطفاً أفلاطونياً لا يشبه ما يجده أمثالهم في أوربا من الأتباع والأولياء، فلانوا ودانوا وجاروا وداروا، وآثروا العافية ومضوا مع الجمهور إلى حيث أراد الجمهور، ونشأ الجيل الجديد فاقتدى بأخوته الكبار وسار سيرتهم، وأصبح النقد مصانعة ومتابعة وأصبح الأدب تملقا وتقليدا.
وهذا أيها الأخ العزيز هو الذي أخالفك فيه أشد الخلاف، وأنكره عليك أعظم الإنكار، يدفعني إلى ذلك أمران: أحدهما أن رأيك بعيد كل البعد عن أن يصور الحق؛ والثاني أن رأيك يمسني، وأؤكد لك أنه يحفظني كل الاحفاظ ويؤذيني كل الإيذاء؛ ولعله يحفظني ويؤذيني أكثر مما احفظني وآذاني كل ما لقيت من ألوان المشقة والإعنات. فهل من الحق أن هؤلاء الكتاب الذين تشير إليهم قد أدركهم الضعف والوهن، فمالأوا الجمهور، وصانعوا السلطان وآثروا العافية في أنفسهم وأموالهم ومناصبهم؟ ومتى كان هذا؟ أحين عصفت العواصف بمصر فأفسدت أمرها السياسي والعقلي وألغت نظامها الحر إلغاء، وفرضت عليها نظاماً أخر مصنوعاً ألغيت فيه كرامة الأفراد والجماعات وتجاوز العبث فيه بالحرية كل حد معقول؟ تعال أيها الأخ العزيز نبحث معاً عن هؤلاء الكتاب أين كانوا في ذلك الوقت؟ وماذا صنعوا؟ وإلى أي حد جاروا وداروا وآثروا العافية؟ لست في حاجة إلى أن أسميهم، فأنت تعرفهم كما يعرفهم الناس جميعاً. لم يكن لأكثرهم منصب في الدولة؛ ولعلي كنت من بينهم الوحيد الذي كان يشغل منصباً من المناصب، فلما عصفت العاصفة أقصيت عن هذا المنصب فأدركت الزملاء ووقفت معهم حيث كانوا يقفون، ومضينا جميعاً إلى حيث كان يجب أن نمضي، واحتملنا جميعاً ما كان ينبغي أن نحتمل من الأثقال. فكنا أيها الأخ العزيز ألسنة الساسة وسيوف القادة، والسفراء بينهم وبين الشعب. وكنا سياطاً في