أيدي الشعب يمزق بها جلود الظالمين تمزيقاً. وكنت ترى وكان غيرك يرى آثارنا في الظلم والظالمين، وبلاءنا في مقاومة العدوان والمعتدين، وحفاظنا لهذا الشعب الذي لم يكن له قوة إلا قوتنا يومئذ. وكنتم تعجبون منا بذلك وتحمدونه لنا وتؤيدوننا فيه. وكنتم تقومون على الشاطئ وتروننا ونحن نغالب الأمواج ونقاوم العواصف نظهر عليها حيناً وتظهر علينا أحياناً، فكان بعض الناس يصفق لنا إذا خلا إلى نفسه لا إذا رآه الناس، ويعطف علينا إذا لم يحس السلطان منه هذا العطف. ولست أزعم أني قد استأت بهذا الفضل، فقد كان نصيبي منه أقل من نصيب كثير من الزملاء. لم أدخل السجن وقد دخله منهم من دخله. أترى أن مواقفنا تلك كانت مواقف المنهزمين؟ أترى أنا شغلنا عن النقد الأدبي بأنفسنا وأموالنا وإيثار للعافية ومجاراتنا للسلطان؟ أم ترى أنا شغلنا عن النقد الأدبي بالدفاع عن قوم لم يكونوا يدافعون عن أنفسهم لأنهم لم يحسنوا هذا الدفاع أو لم يقدروا عليه أو لم يريدوا أن يتورطوا فيه؟ أليس أول ما يجب على المؤرخ الأدبي وعلى المؤرخ بوجه عام أن يكون منصفاً؟ أترى من الأنصاف أن تزعم أن الذين حفظوا للشعب المصري مظهر مقاومته للظلم وأدوا إليه رسالة ساسته وقادته، وأدوا إلى ساسته وقادته ما كان يضطرب في نفسه من الآمال والأماني، وما كان يثور في قلبه من العواطف، كانوا منهزمين يدارون ويجارون ويؤثرون العافية؟
مهلاً أيها الصديق فقد يفهم من الشعوب قصر الذاكرة، ولكنه لا يفهم من خاصة الناس وقادة الرأي وحفظة التأريخ. والغريب أن رأيك هذا في إخوانك الكتاب يظهر أنه قد أعجبك حتى ألهاك عن حقائق ما كان ينبغي أن تلهو عنها. فهؤلاء الكتاب المنهزمون في رأيك لم تشغلهم هذه السياسة العنيفة المنكرة عن الأدب ولا عن النقد؛ وإنك لتعلم أنهم جميعاً كانوا يخاصمون في السياسة وجه النهار ثم يفرغون لأدبهم آخره؛ وكلهم قد أنتج في الأدب أثناء المحنة، وفي الأدب الخالص الذي لا يتصل بالسياسة ولا يمت إليها بسبب؛ ومنهم من اتخذ السجن وسيلة إلى هذا الإنتاج؛ ومنهم من لم تصرفه ظلمة الحياة العامة وشدة الحياة الخاصة عن أن يجول في عالم الفن جولات ثم يعود منه ومعه زهرات في الشعر أو في النثر يهديها إليكم لتلهوا بها وتستمعوا بشذاها، وتستعينوا بذلك على المضي في أعمالكم الهادئة المطمئنة.