مهلاً أيها الصديق فقد يخيل إلي أن هؤلاء الكتاب أنفسهم لم يهملوا النقد نفسه في ذلك الوقت ولم يقصروا في العناية به؛ وإذا لم تكذبني الذاكرة فأنهم قد نقدوك أنت وتناولوا كتبك بما ينبغي لها من العناية والدرس؛ وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد كانوا يفرضون على أنفسهم برغم السياسة وأثقالها وأهوالها، وبرغم الحياة الشاقة التي كانوا يحيونها، والتي عرفت منها شيئاً وغابت عنك منها أشياء؛ كانوا يفرضون على أنفسهم أن يقرءوا ما يظهر من الكتب والدواوين وأن يقولوا رأيهم فيه؛ كانوا يفرضون على أنفسهم صفحة أدبية في الأسبوع يفرغون لها اليوم أو أكثر من اليوم، ويعرضون فيها للنقد كما تحبه وترضاه، ولست أدري كيف نسيت أن المقالات التي كانوا يذيعونها في النقد أثناء هذه الأعوام الأخيرة، قد كانت تثير من الخصومات شيئاً كثيراً، منه ما يثور بينهم هم، ومنه ما يثور بينهم وبين الأدباء الناشئين. ولعلك لم تنس بعد أن خصومة ثارت بيني وبين هيكل حول ثورة الأدب، وأخرى بيني وبين العقاد حول اللاتينية والسكسونية، وثالثة بيني وبين العقاد حول ديوان من دواوينه. فأنت ترى أن إخوانك لم يقصروا ولم يفتروا، ولم يسالم بعضهم بعضا. ولم يأمن بعضهم شر بعض. ولعلك لم تنس أني قد اتخذت الراديو في بعض الأحيان وسيلة من وسائل النقد، فكنت اشتد حيناً على الكتاب الذين استمرت مريرتهم وتم لهم النضج، وأرق حيناً آخر للكتاب الذين لم تستقم لهم الأمور بعد؛ وأنا أفهم أن تطالبنا بالمزيد وألا تكتفي منا بما نعطي، فنحن نطالب أنفسنا بالمزيد ولا نكتفي من أنفسنا بما ننتج، ولكن هذا شيء ووصفنا بالمداراة والمجاراة وإيثار العافية شيء آخر.
وبعد فليس السبيل على الذين أدوا واجبهم الأدبي كما استطاعوا ومازالوا يؤدونه كما يستطيعون برغم ما يملأ حياتهم من الهموم وما يعترض طريقهم من الشوك، وإنما السبيل على الذين يتاح لهم الهدوء ويستمتعون بالبال الرخي والحياة المستقيمة المطمئنة ثم لا ينقدون لأنهم لا يقرءون، أو لا ينقدون لأنهم يقرءون ويشفقون إن أعلنوا آرائهم أن يتنكر لهم الناس وأن يسلقهم أصحاب الكتب بألسنة حداد.
إلى هؤلاء أيها الصديق تستطيع أن تسوق الحديث، وعلى هؤلاء أيها الصديق تستطيع أن تصب اللوم صباً.
وأخرى لا أريد أن أختم هذا الفصل قبل أن ألم بها إلماماً. فأنت تذكر قوماً قد استووا على