هذه وسائل دنيئة، وتحيل النفس على المبدأ المعروف الذي يقول أصحابه الغاية تبرر الواسطة، فتكون الثقة بالنفس قد خطت خطوتين في المغالطة والإيهام: الأولى تحويلها الغاية الدنيئة إلى غاية نبيلة، وهذه خطوة خطتها كي تخطو الخطوة الثانية، وهي اعتناق مذهب المبررين للواسطة بنبل الغاية، ولو أصبح هذا المذهب عقيدة عامة مقدسة لانهارت أركان الديانات وتفككت عن النفوس عرى الفضائل وانحلت قيودها وتسفلت النفوس، ولكن النفوس تأخذ بهذا المبدأ عملياً وفي خفية أو تبثه بطريق الإيحاء وهو من أسباب تحول النفوس عن الخير والفضيلة حتى على خفاء العمل به والاحتيال لتزكيته بوسائل النفوس الجشعة المتعطشة للمكاسب كما هي نفوس أكثر الناس في أحوال كثيرة
وأحسب أنه لولا المغالطة الأولى أي الوهم الذي يقلب الغاية الوضيعة ويجعلها غاية شريفة لما كثر أخذ الناس بالمبدأ الذي يبرر الواسطة بالغاية النبيلة، إذ أن تلك المغالطة الأولى هي الأساس الذي يبنى عليه هذا المبدأ في كثير من الأحوال والذي يبيح للناس كل وسائل الشر فيواقعونها وهم يحسبون أنهم على خير وإلى خير وفضل.
وإذا تتبعت غايات الناس في مساعيهم المختلفة وجدت أن كلاً منهم مهما سفلت غايته يزكيها ويرفع من شأنها ويلبسها لباس الفضيلة أمام نفسه وأمام الناس، وهو يفعل ذلك إذا كانت غايته وضيعة أكثر مما يفعل إذا كانت غايته رفيعة، لأن الغاية الرفيعة ليست في حاجة إلى كل هذا الجهد، وعلى قدر شعور المرء بحقارة غايته تكون رغبته في مغالطة نفسه، وعلى قدر تسفل تلك الغاية يكون غيظه وحنقه ممن يطلعه أو يطلع الناس على حقيقة غايته وأسبابه التي يخفيها. ومن العجيب أنه يحاول أن يستفيد أيضاً من هذا الغيظ الذي سببه الأنانية فيظهره بمظهر الغضب للحق أو الفضل أو الخير أو الدين ولا يزال بنفسه حتى يقنعها أن غيظها ليس غيظ الأناني المحنق الذي أطلع أو كاد أن يطلع أو يخشى أن يطلع الناس على دناءة غايته أو وسائله فيوهمهما أنه غيظ مقدس نبيل وغضب شريف، وهي إذا اقتنعت واعتقدت ذلك سهل عليها إقناع الناس بما اقتنعت به من باطل، وهنا منشأوهم كبير يقع فيه الناس، فأنهم إذا أبصروا إنساناً عظيم التأثير في الناس تعديهم شدة اعتقاده واقتناعه حكموا أنه على حق، ولا سيما إذا كان الحاكم هذا الحكم قليل الخبرة بالنفس الإنسانية، فإذا زادت خبرته بالنفس علم أن شدة اعتقاد الإنسان وعظم اعتناقه وما