ومنذ سنة ١٩١٧ يتدفق سيل الهجرة اليهودية على فلسطين، يدعمها تدفق الأموال اليهودية، والنشاط اليهودي بسائر ألوانه ومناحيه؛ ولا تدخر السياسة البريطانية من جانبها وسعاً لرعاية هذا الوطن اليهودي الجديد، وتشجيع نمائه ورخائه، وتذليل كل صعب في سبيل الهجرة اليهودية، وتنظيم الاستعمار اليهودي للبلاد؛ وتفسح السلطة المنتدبة في ذلك مجالاً كبيراً لآراء الوكالة التنفيذية اليهودية، وهي الهيئة اليهودية الرسمية التي تقوم في فلسطين بجانب سلطات الانتداب طبقاً لصك الانتداب ذاته، وتتمتع بحق الاقتراح والمشورة في كل ما يتعلق بالوطن القومي اليهودي.
ومع أن اليهودية أقبلت من سائر أنحاء العالم على استعمار فلسطين بحماسة شديدة، وحملت إليها مئات الملايين، واشترت من أراضيها مساحات عظيمة، حولتها إلى مستعمرات يهودية، غنية ضخمة، وأنشأت مدينة يهودية عظيمة هي مدينة تل أبيب، وعملت على إحياء اللغة العبرية وجعلها لغة الوطن القومي الجديد، وأنشأت جامعة عبرية كبيرة لتعمل على إحياء التفكير اليهودي؛ مع ذلك كله كانت تشير اليهودية في أعوامها الأولى تسير إلى غايتها متعثرة، ويزعجها سخط العرب وتبرمهم؛ وكانت تخشى دائماً أن تميل السياسة البريطانية إلى إرضاء الأماني القومية العربية بوجه من الوجوه، خصوصاً وأن تصريح بلفور ذاته ينص على احترام حقوق الطوائف غير اليهودية، المدنية والدينية؛ بل لقد مر باليهودية قبل بضع أعوام فقط ساعات يأس حقيقي، وخيل لها غير مرة، أن حلم هرتسل في بعث الدولة اليهودية وإنشاء الوطن القومي اليهودي، سينهار في مهده؛ وكادت الحكومة البريطانية في سنة ١٩٣٠ بعد أن تبينت عدالة المطالب العربية فيما يتعلق بوقف الهجرة اليهودية، ووقف بيع أراضي العرب، وهي مطالب عززها تقرير اللجنة الإنكليزية التي انتدبت لبحث هذه المسائل، تجنح إلى إرضاء بعض الأماني العربية، وصدرت في مجلس العموم البريطاني تصريحات رسمية في هذا الشأن؛ ولكن سرعان ما تغلب نفوذ اليهودية مرة أخرى، وسحبت الحكومة البريطانية تصريحاتها ووعودها للعرب، بتصريحات معارضة ألقتها تأييداً لوجهة النظر اليهودية وعهد بلفور.
وهكذا استطاعت اليهودية أن تخرج ظافرة من الأزمات والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كادت تزعزع إيمانها في حلمها وفي مثلها؛ وذهبت جهود العرب سدى، ولم