ويدحض هذه الإنكار. نظرة بسيطة نرسلها إلى الآثار القيمة والأسفار العظيمة التي اعتنت بطبعها وإخراجها تلكم الفئة تدلنا على أنه لولا الجهود الجبارة التي قام بها هؤلاء العلماء لما أمكننا أن نعلم شيئاً عن الآثار المهمة ككتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد، وهو الكتاب الفريد الذي يعد الآن من أكبر أمهات الكتب من جهة، والمأخذ الوحيد للقضايا الهامة في التأريخ الإسلامي من جهة أخرى. وقل مثل ذلك عن بقية الآثار العظيمة التي نشروها.
هذا كتاب الأنساب (للسمعاني) لولا هممهم لما طبع ولأصبح في زوايا الإهمال؛ لقد طبع هذا الكتاب في لندن طبعة شمسية (فوتوغرافية) ولا يخفى ما تكلف هذه الطريقة للنشر من النفقات والجهود. وهناك كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) للأمام الأشعري. فلولا همة الأستاذ (ريتر) المشتشرق الألماني والمبادرة بطبعه في الآستانة لكان نصيبه التلف في الخزانات. ولا ننس ما لطبعة (ليدن) في (هولانده) من الفضل الأكبر في طبع أمهات الكتب التاريخية والأدبية واللغوية وغيرها، كتاريخ الطبري، واليعقوبي، وتجارب الأمم لابن مسكويه، وتاريخ الصابي، والعيون والحدائق، والمسالك والممالك لابن حوقل، والأصطخري، وكتاب التنبيه والأشراف للمسعودي، والأعلاق النفيسة لابن رسته، وكتاب مراصد الإطلاع لعبد المؤمن، وغيرها من الكتب المهمة التي لم تحضرني أسماؤها. على أن مطابع لندن، وباريس وليبزج ورومه وغوتنفن وغريفزولد لا تقل خدمة عن بقية المطابع التي قامت بقسطها من الأعمال الجبارة في إخراج هذا التراث الثمين الخالد ولا يفوتنا أن الكثير من هذه الكتب لم تكن مطبوعة في المطابع العربية إلا النزر القليل منها.
إذن لولا هذه الجهود العظيمة الموجهة إلى خدمة العلم والأدب خاصة، لما أمكننا أن نتوصل إلى مشاهدة هذه الآثار اللهم إلا إذا تجشمنا مصاعب السفر ومصائبه، وفتشنا عنها في زوايا المكاتب في سائر الأقطار الأوربية والشرقية.
لم تقف أعمال هؤلاء العلماء عند حد الإخراج بالطبع ونشر الآثار وإنما انصرف إلى التحقيق والدرس، وأخيراً إلى التأليف؛ ذلك التأليف المنتج والمستند إلى الحقائق التاريخية. فمن هؤلاء الرجال العاملين المستشرق الإنجليزي الأستاذ الكبير (ليسترنج) فإنه كتب كتاباً عن (بغداد) في عهد الخلافة العباسية ضمنه معلومات تاريخية منقطعة النظير لم يسبقه إليها سابق، ولم يلحقه في تحقيقها لاحق. والذي يجيل طرفه في قائمة المآخذ والمصادر