ومما لا شك فيه أن رحلة العاطلين المصريين هذه إلى أمريكا وكوبا وجزائر الهند الغربية دامت بضع مئات من السنين. وأن عدداً من الأطفال ولدوا أثناء السفر وشبوا وعاشوا وماتوا على بعد عشرات المئات من الأميال من الموضع الذي أبصروا فيه لأول مرة نور العالم من دون أن يصلوا إلى أرض الأمل والرجاء، فورث الأبناء الرسالة وأخذوا على عاتقهم تحقيقها.
وليس باستطاعة أحفاد الأحفاد بناء مدينة في أمريكا تشبه كل الشبه المدنية التي أقامها المصريون على ضفاف النيل مع أنهم لم يحظوا بالعيش في مصر يوماً لغز قط، فقد كان هؤلاء الرحل من بدء ترحالهم إلى الدنيا الجديدة يعدون العدة لتوفير أسباب إتمام المرحلة التالية. فان وجدوا الأرض خصبة والماء ميسوراً زرعوا الغلال والفاكهة والخضر والزهور وحملوا معهم ما أرادوه ميرة لهم في سفرهم. وكما أن بعضهم كان ينسج الصوف والكتان وغيرهما ملابس وأردية وخياماً، كان البعض الآخر من أصحاب الحرف يلقن الصبية صناعته. وكانت تعقد قبل مسير كل يوم في الصباح من أيام الإقامة حلقات يدرس فيها العلماء علمهم ويقدم فيها الفنانون تجاربهم. وكان لكل علم وفن دراسات وحلقات وفصول أولية وإعدادية عالية. فكانت كل أنواع الثقافات المعروفة في ضفاف وادي النيل تقدم دون تمييز إلى كل الأفراد. وهكذا عرفوا كيف يضعون بين حياة الفطرة وحياة أحفادهم سداً منيعاً. ولما كان لكل فرد في القافلة حق تلقن العلم ودرس الفن الذي يميل إليه أصبح الجميع أحرار الفكر أحرار العمل، خاصة وقد تخلصوا من سلطة رجال الدين. وكان على طلبة الأمس أن يعلموا صبية وبنات اليوم. وهكذا احتفظ بمستوى الثقافة.
وقد وجه السؤال التالي إلى بعض الهيئات:
إذا كان حقاً أن المصريين عرفوا موضع أمريكا الجغرافي وعلموا بتفوق ثروتها الطبيعية، فلم لم يركبوا البحر إليها مباشرة من شواطئ البحر الأحمر؟
وما أيسر الجواب على ذلك. إن المسافر في البحر خاصة في تلك السفن القديمة العهد؛ كان مضطراً إلى هجر صناعته وعدم مزاولته لها ولكثير من دعائم الثقافة وأسس المدنية. وكيف يزال في السفينة فلاحة الأرض وزراعتها، ونحن نعلم أن المدنية المصرية كان أساسها في الزراعة؟ وإذا كان هذا حال الفلاح فكيف يكون حال أولاده وأحفاده. كذلك