للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فهم الطبيعة والعمل على تحسينها وإكمالها (لأنه يلتذ بالتشبيه للأشياء التي قد أحسها وبالمحاكاة لها ليلتذ بإحساسها) فما اصدق هذا الإحساس وما أبعده في تعليل العلل المولدة للشعر. إن الشاعر يأتي الطبيعة ويستجليها ويستنطقها ويبث فيها الحياة، ليجعل فيها القدرة على مشاركته في بهجته. وجاء تعليله الثاني تعليلا طبيعيا، نشأ في الإنسان لالتذاذه بالطبع بالوزن والألحان. . . وهو في هذا لا يرى في الوزن والألحان كل الشعر إن لم تنطو هذه الألحان على محاكاة الطبيعة؛ ثم يذهب في اختلاف طبائع الأمم، فأن الأمم التي تغلب الأخلاق عليها تميل إلى مديح الأفعال الجميلة، والعكس بالعكس. ولا بد من ملاءمة الأوزان والألحان للمعاني؛ فرب وزن يناسب غرضاً ولا يناسب غرضاً آخر. وعملهما فيه هو أنها تعد النفس لقبول خيال الشيء الذي يقصد تخيله. وثمة علل كثيرة للشعر، (وإنما المحاكاة هي العمود والأس في هذه الصناعة، لأن الالتذاذ ليس يكون بذكر الشيء المقصود ذكره دون أن يحاكى. ولذلك لا يلتذ الإنسان بالنظر إلى صور الأشياء الموجودة أنفسها، ويلتذ بمحاكاتها وتصورها بالأصباغ والألوان؛ ولذلك استعمل الإنسان صناعة الزواقة والتصوير. وهل كانت غاية المديح مثلاً إلا محاكاة الناس من قبل عاداتهم الجميلة وأمثالهم الحسنة واعتقاداتهم البعيدة؟ ولعل أرسطو كان أكثر إنصافاً لرسالة الشعر منه لرسالة الخطابة (فقد أعترف لها بأنها ليست مبنية على الاحتجاج والمناظرة، وبخاصة صناعة المديح، وبذلك ليس يستعمل المديح صناعة النفاق كما تستعملها الخطابة) وبهذا أحسن إلى الشعر؛ وهل المادح يمدح إلا عن اعتقاد. . . . . وأساء إلى الخطابة - ولكن النفاق قد يدخل الشعر كما يدخل الخطابة، وقد يبرأ الشعر منه كما تبرأ الخطابة منه بحسب قوة الاعتقاد وصدقه عند الشاعر والخطيب.

صناعة المديح وأجزاؤها

قد أسهب ابن رشد في هذا الباب ما شاء له الإسهاب، لأنه يراه أكثر انطباقاً على محاكاة الأخلاق الفاضلة. والفلسفة تكره المحاكاة لمجرد المحاكاة إلا أن يكون من ورائها غرض أو معنى شريف من معاني التهذيب. وقد تصدى لعلة في الشعر لا تزال فاشية في شعرنا، هي علة (الاستطراد) في القصيدة الواحدة، (ويشبه أن يكون جميع الشعراء لا يتحفظون بهذا بل ينتقلون من شيء إلى شيء، ولا يلزمون غرضاً واحداً بعينه ما عدا (هوميروس) في

<<  <  ج:
ص:  >  >>