للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اليونان.

وأنت تجد هذا كثيراً ما يعرض في أشعار العرب والمحدثين وبخاصة عند المدح، أعني أنه إذا عن لهم شيء ما من أسباب الممدوح مثل سيف أو قوس اشتغلوا بمحاكاته وأضربوا عن ذكر الممدوح. وبالجملة فيجب أن تكون الصناعة تتشبه بالطبيعة، أعني أن تكون إنما تفعل جميع ما تفعله من أجل غرض واحد وغاية واحدة، وإذا كان كذلك فواجب أن يكون التشبيه والمحاكاة لواحد ومقصوداً به غرض واحد، وأن يكون لأجزائه عظم محدود، وأن يكون فيها مبدأ ووسط وآخر، وأن يكون الوسط أفضلها.

أما تعريفه للمحاكاة من حيث الخلق والإبداع فهو تعريف تم عن إحساس عال بالشعر، فليس الشعر يعتمد على التخييل بدون نظام، ولا على تصوير الأشياء التي لا تجول في الذهن. (لأن المحاكاة التي تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من أفعال الشاعر - وهي التي تسمى أمثالاً وقصصاً مثل ما في كتاب كليلة ودمنة. لكن الشاعر إنما يتكلم في الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود؛ وأما الذين يعملون الأمثال والقصص فان عملهم غير عمل الشعراء وإن كانوا قد يعملون تلك الأمثال والأحاديث المخترعة بكلام موزون. فالفاعل للأمثال المخترعة والقصص إنما يخترع أشخاصاً ليس لها وجود أصلاً ويضع لها أسماء؛ وأما الشاعر فإنما يضع أسماء لأشياء موجودة. . . ولذلك كانت صناعة الشعر أقرب إلى الفلسفة من صناعة اختراع الأمثال) وقد أبى ذهن أرسطو إلا أن يعطف على الشعر ويجعل رسالته مشتقة من رسالة الفلسفة. وإذا نصر الفيلسوف رسالة الشعر وخصها بفضله قد رام - لقاء هذا الفضل أن يضيق عليها حدودها، (فهو يرى أن الأشياء غير الموجودة يجب ألا توضع وتخترع لها أسماء في صناعة المديح، مثل وصفهم الجود شخصاً ثم يضعون أفعالاً له ويحاكونها ويطنبون في مدحه. فهذا النوع من التخييل وإن كان قد ينتفع به فليس ينبغي أن يعتمد في صناعة المديح لأنه ليس مما يوافق جميع الطباع بل قد يضحك منه ويزدريه كثير من الناس.)، وقد يكون اعتقاده على حق لو كان ينطق عن غير الشعر. لأن الشعر لا منصرف له عن خلقه لكثير من أنواع التخيل، (ومن جيد ما في هذا الباب للعرب - وإن لم يكن على طريق الحث على الفضيلة) قول الأعشى:

لعمري لقد لاحت عيونٌ نواظر ... إلى ضوء نار باليفاع تحرَّق

<<  <  ج:
ص:  >  >>