وكم نود لو أن لنا من صائب النظر في مهنة النقد ما نعمد به إلى مؤلفاته - وهي خير ما بقي لنا من آثاره التي تترجم عن آرائه، ونتبين بين غثها وسمينها مقدار عبقريته، وحقيقة نفسيته، بعد أن بقي طيلة هذه المدة مجهول الهوية مكتوم الطوية، ونرجع بذلك فيصل الحكم إلى نصابه، وحسام الحقيقة إلى قرابه.
أما وليس لنا من قدرة النقد ما أسلفنا، فلا أقل من أن نعرض لحياته الطافحة بالألغاز والمبهمات جهد المستطاع وغاية الميسور آملين فيما نقرره أن نبلغ جدة الصواب.
مولده وأخلاقه
ولد برسي شلي في الرابع من شهر أغسطس لعام ١٧٩٢، وقضى طفولته في لندن تعصف به الهموم والأحزان، وتنتاشه مخالب البؤس والأشجان، وذلك لما كان يلقاه من فقر والده ونكد طالعه، وكان - على ما يصفه لنا السير توماس هوج في كتابه - سري الخُلق سوي الحلق ذا عينين نجلاوين، هزيل الجسم أزهره، ناتئ المفاصل كبيرها، جعدي شعر الرأس قصيره، وضاء البشرة، جميل الأنف، مليح الفم، أمرد باسر الوجه، تعلو غضون حاجبيه المقطبين من شدة ما تجرعه من كأس الحياة المريرة سحابةٌ من الحزن، ولذا كان يكره دور الملاهي وينفر من الحانات. ويروى أنه كان بالغاً من الطول حد التحدب، ومن الجمال درجة التأنت، حتى أن منظره ليملك القلب ويستهوي الخاطر. وكان دائماً يحدب على المستضعفين ويرفق بالفقراء والمساكين، ويصبر على كيد أعدائه الظالمين.
شلي والمعري
جاء شلي فكأنما كان مجيئه ريحاً هادئة أذكت سعير تلك النار التي قدح المعري بزناده شرارها، وتعهد بآرائه ضرامها، والتي لا تزال تحدث ثورة في الرأي واضطراباً في العقيدة. جاء شلي، وكان ذلك الصوت الذي أهاب به المعري في ربوع بغداد، وبطاح سورية، وأرز لبنان - البلاد التي اختلف إليها المعري في أسفاره - لما يتلاش، فرجع في بلاد الغرب دوى صداه، الذي امتد من جبال (بنسين) في إنكلترا، إلى جبال الألب في إيطاليا، والذي انفجر في (ورنهام) - محل مولد شلي - فسار منها إلى مدينة روما، ثم تلاشى بين أمواج خليج (بيزا) المصطخبة.