للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يدرسه حتى ولو كان ممن يجيدون التمثيل بالسليقة من غير طول عناء في التفهم والدرس؛ ومسرته إذن متصلة بمسرات البحث في النفس والحياة

ولعل قائلاً يقول إن بحث النفس بحث معاد مملول يجلب السأم، وإن النفس كالتاريخ الذي يعيد نفسه؛ لكن النفس إذا أعادت تاريخاً من تواريخها لم تعده بالنص، وقد يأتي التاريخ مع الأسباب والمسببات القديمة بحوادث جديدة تستدعى التأمل وربط المسببات بالأسباب، وهذا ليس بالأمر الهين ولا هو بالأمر المعاد المملول، ثم إن تحت ما هو معاد مملول من أطوار النفس وأسبابها أسباباً أخرى لا يصل إليها التقصي، وأعماقاً يعجز الغائص عن سبر غورها وفيها مجال واسع لحب الاستطلاع الغريب حتى يأتي الموت فيسدل ستاره على لعب الحياة القدس إلا إذا مل المرء البحث من اليأس والعجز عن بلوغ غور النفس لا من العرفان

والإنسان في رحلة الحياة كالمسافر الجواب للأقطار؛ وترى بين ذوي الأسفار من يتعجب من كل أمر، ومن يضحك من كل شيء؛ ومنهم من يتأفف من كل أمر، ومن يسخر من كل شيء؛ ومنهم من يتحمل أشد مشقة من شغفه باستطلاع الغريب أثناء أسفاره. والناس أيضاً في رحلة الحياة الدنيا يختلفون في أهوائهم؛ ومنهم من يتحمل أيضاً أشد مشقة وأمض ألم من شغفه باستطلاع الغريب مما تأتي به الأيام والليالي أو ما يراه في بحث النفوس البشرية. ومن ذوى الأسفار في أقطار الأرض من يحكم على قوم بحالة واحدة رآها في احدهم، شأنه شأن الإنسان في رحلة الحياة الدنيا يحكم على النفوس بحالة واحدة يحولها إلى قاعدة ونظرية عامة. وذوو الأسفار في الأقطار كالإنسان في رحلة الحياة قد يتعجب ويستغرب الطبيعي المألوف من عادات الناس أو أحوال نفوسهم وأخلاقهم لأن الإنسان ذو خيال يتوقع به أن يرى الناس على ما يود من أخلاقهم وعاداتهم وعلى ما يسره ويرضيه وينفعه منها، فإذا اطلع على المألوف مما لا يود منها فاجأه مفاجأة غير المألوف، وهذا من أثر أنانيته التي تغالط نفسه مغالطات مختلفة، فمرة تغالطه حتى يتوقع من أخلاق الناس الحسن النافع له، ومرة تغالطه حتى يتوقع السيئ الذي يتباهى بالخلو منه، وقد لا يكون ذلك الحسن ولا ذلك السيئ من خصال أو عادات الذين ينعتهم، ولكنه يرجو النفع لنفسه في الحالين إما بتوقع الحسن منهم كي يستفيد، وإما بتوقع السيئ كي يعلو بمنزلة نفسه عنهم،

<<  <  ج:
ص:  >  >>