للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومن هذا الباب مخاطبتهم الديار والأطلال ومجاوبتها لهم كقول ذي الرمة:

وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه

وقول عنترة

أعياك رسم الدار لم يتكلم ... حتى تكلم كالأصم الأعجم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي

وذكر أرسطو أن هوميروس كان يعتمد هذا النوع كثيراً

وإجادة القصص الشعري والبلوغ فيه إلى غاية التمام أن يكون متى بلغ الشاعر من وصف الشيء أو القضية الواقعة التي يصفها مبلغاً يرى السامعين له كأنه محسوس ومنظور إليه وهو كثير في شعر الفحول، لكن إنما يوجد هذا النحو من التخييل للعرب إما في أفعال غير عفيفة، وإما فيما القصد منه مطابقة التخييل فقط. مثال الأول قول أمرىء القيس:

سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال

فقالت: سباك الله إنك فأضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي

فقلت: يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

ومثال الثاني قول ذي الرمة يصف النار:

وسقط كعين الديك عاودت صحبتي ... أباها، وهيأنا لموقعها وكرا

فقلت لها ارفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قته قدرا

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن ... عليها الصبا واجعل يديك لها سترا

والمتنبي أفضل من يوجد له هذا الصنف من التخييل، ولذلك يحكى عنه أنه كان لا يريد أن يصف الوقائع التي لم يشهدها مع سيف الدولة، على أن تعديد كل مواضع المحاكاة مما يطول، وإنما أشار أرسطو بذلك إلى كثرتها واختلاف الأمم فيها.

نقد المحاكاة

أراد بهذا الباب أن يبدي المعايب التي يجب على الأديب أن يجتنبها لأنها من عيوب الإنشاء. واستشهد على ذلك بهوميروس فقد كان يعمل صدراً يسيراً ثم يتخلص إلى ما يريد محاكاته من غير أن يأتي في ذلك بشيء لم يُعتد لكن ما قد اعتيد، فأن غير المُعتاد مُنكر. ولعله دل بذلك على مظهر من مظاهر البساطة التي يزداد بها الكلام روعة وتسلسلاً. فكلما

<<  <  ج:
ص:  >  >>