أنها قد ملكت وتمكنت، وبنت فأسست، وباضت وفرّخت؛ جاءها رجل واحد فحطم جيوشها في حطين، ثم ردّهم على أعقابهم خاسرين، ثم أخرجهم منها مذءومين مدحورين.
أفعيينا بأوربة كلها، وعجزنا عنها حتى نعجز عن حفنة من شذ إذ الآفاق ونفايات الأمم وعباد الدرهم والدينار؟ أم قد جفّ الدم الذي روّى عروق صلاح الدين، وماتت الأمة التي أخرجته، وعقمت النساء فلا يلدن شبيهه؟ إن كل مسلم اليوم في فلسطين صلاحُ الدين، وكل بقعة فيها حطين!
ضربت عليهم الذلة والمسكنة: فالذهب في صناديقهم والنظام جمعياتهم، والريّ والخصب في أرضهم، والسلاح في أيديهم، والإنكليز من ورائهم، ثم لا يثبتون ساعة واحدة لهؤلاء العزل الفقراء. . . ولا يقدرون أن يقفوا في وجوههم، ويرتجفون إذا سمعوا ذكر أسمائهم:(إِذَا رأَيتَهُمْ تُعجِبُكَ أَجْسَامُهمْ وإِنْ يَقُولوا تَسْمَعْ لقولِهمْ كأَنَّهُمْ خشبٌ مُسَنَّدَة يَحْسَبُون كلَّ صَيْحَةٍ علَيهِمْ) أهؤلاء الذين لا يستطيعون أن يمشوا في الطرقات وحراب إنكلترا تحميهم، يستطيعون بعدُ أن يمسوا سدنة المسجد الأقصى وسادة فلسطين، ويملكوها - وحدهم - رغم أنف المسلمين أجمعين؟ ولو نفخ عليهم المسلمون أربعمائة مليون نفخة لطيروهم، ولو مالوا عليهم لطحنوهم، ولوبصقوا عليهم لأغرقوهم، ولو صرخوا فيهم لقتلوهم؟
أهؤلاء الذين ما عرفهم التاريخ إلا مغلوبين، يتحرشون بمن لم يعرفهم التاريخ إلا غالبين منصورين، ومن حكموا الدنيا فكانوا نعم الحاكمين، وعلموا العالم فكانوا خير معلمين؟
إن معهم وعداً، وإن معنا لوعداً: معهم وعد بلفور. ومنا وعد الله:(وَعَدَ الله الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرضِ كما اسْتَخْلَفَ الّذينَ من قَبْلِهمْ، وَلَيُمَكِّنَنّ لَهُمْ دينَهُم الذي ارتضى لَهُمْ، وليُبدلنَّهم من بعدِ خَوْفِهمْ أَمنا) ولكنّ الله يمتحن إيماننا وصبرنا واتحادنا وتعاوننا، وينظر أنجاهد في سبيله بأموالنا وأنفسنا، وننصر إخواننا ونكون في توادنا وتراحمنا كالجسد الواحد، إذا تألم عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالحمىّ والسهر، أم قد فرقت بيننا السياسة، وباعدت بيننا الغير، ومزقتنا الأهواء والمطامع، فأمسينا ننام في القاهرة ودمشق وبغداد على فرش الريش والديباج، وإخواننا على شعفات جبال نابلس والقدس لا يغمض لهم جفن، ونأكل الشواء والحلواء وإخواننا هناك قد لا يجدون ما يقوم بأودهم من الخبز، ونبذر المال نقذف به إلى أوروبة ثمناً لهنات هينات، فيصنعون منه