كانت كعَلَق نجوم البحر شفافة، فاستطاع بعدسته أن يرى ما يجرى في داخلها، وأخذ يبحث في جَلَد شديد عن داء يكون في هذه البراغيث، وجاءه صبرٌ نادر على غير انتظار، فعَمِل طويلاً، وبحث كما يبحث البحّاثة القُحّ وقليلاً ما كانة.
لعلك أيها القارئ أدركت من تاريخ المكروبات هذا أن الباحث كثيراً ما يعتزم البحث عن شيء فيبدأ بحثه فلا يلبث به طويلا حتى تقوده الطريق إلى أمور غير التي طلبها أولاً على أن هذا لم يكن من قِسمة صاحبنا؛ فانه أخذ يرقب هذه البراغيث تضرب في حياتها العادية ضرباً غير ذي غاية ولانهاية.
فلم يلبث أن رآها من خَلَل عدسته تبتلع بزور خمائر فيها خطر على حياتها. وكانت بزوراً حادة كالأبر. فلما بلغت إلى ما يشبه المعدة من البرغوث نفذت فيه وأخذت تسير انزلاقاً في جسمه. هنا رأي متشنيكوف ما خصّته الأقدار برؤيته. هنا نظر ما أتحفته الحظوظ الطبية بنظرته: سارت خلايا البرغوث الأفّاقة التوّاهة: تلك الفَجُوسات التي تقي الجسم شرّ الدخيل، سارت نافرة إلى تلك البزور الفاتكة العادية، فتجمعت حولها، وحلّقت عليها. فأذابتها، وأكلتها أكلا، وهضمتها هضما. . . ومما زاد نظريته ثبوتاً، أن بعض البراغيث كانت تتخاذل فَجُوساتها أحياناً عن النفْر إلى العدوّ الغازي، فكانت بزور تلك الخمائر تستقر في جسم البرغوث فتتنفس عن خمائر حية ناشطة تتكاثر تكاثراً ذريعاً فتسمم البرغوث فتقتله ثم هي تأكله أطلّ متشنيكوف من خلال عدسته على هذه المعارك الجميلة تدور رحاها في هذه الميادين الصغيرة فعرف أولَ عارفِ سرّاً من أسرار الطبيعة خبأته عن الناس زماناً طويلاً، عرف كيف تدفع بعض الخلائق عن نفسها غائلةً لو قعدت عنها لكانت قاتلة. وقد كان صادقاً في الذي رآه، وقد كان بارعاً موّفقاً في الطريق الذي سلكه، فأنىّ يخطر على بال امرئٍ أن يبحث عن علّة الحصانة في مخلوق غريب بعيد كل البعد عن أذهان الناس كبرغوث الماء.
وقنع بالذي وجده من بحثه، وآمن كل الإيمان بنظريته فلم يتابع دراسة تلك المعارك التي كان يقضى كوُخ السنوات العديدة لو أنه اتفق له منها ما اتفق لمتشنيكوف. وأخيراً نشر مقالة نمّت عن علم جم وفضل كثير قال فيها: (إن حصانة براغيث الماء ترجع إلى فُجَوساتها، وهي مَثَل للأسلوب الطبيعي في الوقاية من الوباء. . . فان بزرة الخميرة إذا لم