أخبروه أخيراً:(أن الكلمة المثْلى هي فجوسه ومعناها بالإغريقية الخلية الملتهمة فهي إذن ضالتكَ التي تنْشُد)
فشكرهم متشنيكوف، وأخذ هذه الكلمة وعلقها في أعلى ساريته، ثم حل القلاع ومخر بسفينة بحار حياته المضطربة، وهذه الكلمة دينيه، وبهذه الكلمة يفسر كل شئ، وهي صرخته في حربه وفي سلمه، وهي أداة عيشه وآلة رزقه. وصدّقني أو كذّب لقد كان لهذه الكلمة نصيب كبير في حفزنا إلى الدراسة ما هي الحصانة. ومن هذه الساعة أخذ متشنيكوف يبشر بالفجوسات ويذيع من أمرها كل جميل، ويدفع عنها مقالة السوء، وأجرى عليها أبحاثاً لها خطرها، وعادى في سبيلها، ولاشك أنه بذلك أدّى نصيبه في إحداث الحرب العالمية الكبرى حرب عام ١٩١٤ بما عكّرت حملاته الشديدة ما بين فرنسا وألمانيا من مودّة لم تكن كثيرة الصفاء أبداً.
وذهب من فينا إلى أوديسا، وهناك ألقى خطاباً عظيما في (القوات العلاجية للكائن الحي)، فدهش أطباء هذا البلد مما قال وأُعجبوا به إعجاباً كبيراً، فقد كان إلقاؤه غاية في الإبداع، وحرارة قلبه لا تدع للسامع شكا في إخلاصه، ولكن لا يوجد في السجلات ما يفهم منه المطالع أنه أخبر جمهره الأطباء بهذا البلد أنه لم يكن رأي إلى هذا العهد كرة دموية بيضاء واحدة تلتهم مكروبة واحدة من مكروبات الوباء. إن الناس جميعاً - ومنهم الأطباء العلماء - لا تقع أبصارهم على كلبين يتشاجران حتى تستوقفهم تلك الحرب الصغيرة فيتجمعون حولها ارواء للطبيعة وانتظاراً لعلم من تكون له الغلبة، وكذلك الحال في أمر متشنيكوف فان حكاية تلك الحروب الطاحنة الدائمة المتواصلة بين الفجوسات الجريئة الباسلة، وهي تنهض إلى الثغور تدفع غزوة تلك المكروبات العادية القاتلة، تلك الحكاية أثارت شوق الناس فأرهفت آذانهم لاستماع، وفتحت قلوبهم لاقتناع.
ولكن متشنيكوف عرف أنه لابد له من البحث عن حقائق ذات بال تقوم دليلاً على الذي يقول؛ ولم يطل به الزمن حتى وجدها بيّنة كالشمس رائقة كالبلور، وذلك في براغيث الماء.
ومضت عليه فترة من الزمن نسى فيها الخطابة، وعكف فيها على صيد هذه البراغيث من البرك ومرابي الأسماك. وكان اختيارا عبقرياً أوحى إليه به لا شكّ شيطانه، فهذه البراغيث