متحيزاً متحاملاً يغدق المطاعن والتهم على العرب وعصور الإسلام؛ وحذا حذوه من جاء بعده من المؤرخين؛ وطبعت مؤلفاتهم جميعاً بهذا الطابع المغرض؛ وكانت السياسة الإسبانية تحرص دائماً على حجب آثار العصر الإسلامي، وتخفيها عن كل باحث ومتطلع، كأنما كانت تخشى أن تؤثر روح التفكير الإسلامي في تفكير إسبانيا النصرانية، وهي لم تدخر وسعاً في مطاردة هذا الروح وقتله؛ ولبثت الآثار الإسلامية عصوراً مقبورة في أقبية الأسكوريال المظلمة، وكانت حتى أواخر القرن السابع عشر تبلغ زهاء عشرة آلاف مجلد جمع معظمها أيام سقوط غرناطة، وضمت إليها بعد ذلك نحو ثلاثة آلاف مجلد كانت للسلطان زيدان السعدي ملك مراكش؛ وكانت مشحونة في مركب مغربي لتنقل إلى بعض ثغور المغرب خوفاً على ضياعها أثناء الفتنة، فأسرتها بعض المراكب الإسبانية وحملت شحنتها إلى إسبانيا؛ وفي أواخر القرن السابع عشر أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس محنة أليمة، إذ شبت النار في الأسكوريال والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين. عندئذ استفاقت الحكومة الإسبانية من سباتها؛ وحررت ذهنها بعض الشيء من ذلك التعصب العميق الذي صرفها عصوراً طويلة عن العناية بهذا التراث، واستدعت من رومة حبرا شرقياً وعلامة لغوياً كبيراً هو ميشيل الغزيري اللبناني الذي يعرف في الغرب باسم (كازيري) وعهدت إليه بدرس الآثار العربية ووضع فهرس جامع لها؛ فلبث الغزيري أعواماً طويلة يدرس وينقب في تلك المخطوطات حتى أتم المهمة، وأخرج في سنة ١٧٦٠ باللاتينية فهرسة الجامع بعنوان (المكتبة العربية الإسبانية في الأسكوريال) - وصدر كازيري معجمه بمقدمة طويلة شرح فيها قيمة المخطوطات العربية وأهميتها، ونقل في فهرسه نبذاً كثيرة من بعض الآثار الهامة؛ فأثار ظهور هذا الفهرس الجامع لأول مرة اهتماماً كبيراً في دوائر البحث والتفكير، ولفت نظر المؤرخين الأسبان إلى تلك الناحية الهامة من تاريخ إسبانيا القومي، وإلى تلك المراجع النفيسة التي تلقي أعظم ضوء على تاريخ الأندلس وأحوال المجتمع الإسلامي؛ وعني طائفة من الباحثين في أواخر القرن الثامن عشر مثل أندريس وماسدي ببحث المصادر العربية والانتفاع بها، والاقتباس منها؛ وأخرج أندريس كتابه عن (أصول الأدب) وأخرج ماسدي مؤلفه الجامع عن تاريخ إسبانيا والحضارة الإسبانية وفيه نبذ شائقة عن المجتمع