ذلك المركز منازع. وكان مرجع قوتها إلى عدة عوامل: أولها عزلتها البحرية التي أمنت بها أخطار الغزو الأجنبي أمناً لم يتمتع به غيرها من الدول الأوربية، ومكنها من أن تُنَمِّي نظم الحكم الذاتي الخاصة بها في أمن واطمئنان، وأن تغرس في نفوس أبنائها حب الهدوء وإطاعة القوانين. وثاني هذه العوامل هو تفوقها البحري الذي لم يكن يسمو إليه غيرها من الدول؛ وبفضل هذا التفوق أمنت بريطانيا على نفسها أكثر مما تأمن على نفسها أمة أخرى في العالم؛ وعظم نفوذها في شواطئ البحار، وأضحت هي الممثلة للحضارة الأوربية لدى معظم الشعوب غير الأوربية. وثالث هذه العوامل هو إمبراطوريتها الواسعة الأرجاء التي تمتلكها بوسائل سهلة، والتي أخلصت لها شعوبها المحكومة، والتي اتخذتها بريطانيا سوقاً لمصنوعاتها، ومستودعاً للمواد الغفل لم تنل مثله غيرها من الأمم. ورابعها تفوقها في وسائل الإنتاج الصناعي الحديثة ووجود مناجم غنية بالفحم سهل الاستخراج كان إلى عهد قريب هو القوة الصناعية الوحيدة في العالم. والعامل الخامس هو ما انطوت عليه صدور أبنائها من حب المغامرة وما طبعوا عليه من قوة الابتكار الفردي. وسادسها هو قوتها المالية التي نشأت من انتشار عادة الادخار والاستثمار بين أبنائها، ومما أنشأته من نظام مصرفي عجيب؛ وقد أصبحت بفضل هذه القوة مركز العالم المالي والدولة الدائنة العظيمة التي مدت العالم بمعظم ما احتاجه من رؤوس الأموال لاستثمار البلاد الجديدة، وبفضل وسائلها ومبتكراتها المالية يتبادل العالم تجارته الدولية. والعامل السابع في عظمة بريطانيا أنها هي وحدها السوق العظيمة الحرة والمستودع المركزي العام الذي تأتي إليه جميع غلات العالم كله ولا يحول بينها وبينه حائل. وكان في مقدورها أن تختط لنفسها هذه الخطة لأنها لا تخشى المنافسة، ولأنها هي المضطرة إلى أن تبيع بضائعها في كل جزء من أجزاء العالم تعلم حق العلم أنها إذا لم تقو على منافسة الدول لها في بلادها فلن تقوى على المنافسة في خارجها. وآخر أسباب هذه العظمة، وإن لم يكن أقلها أهمية، هو نظام حكومتها الحر الذي أعجبت به ونسجت على منواله أمم العالم أجمع، لأنه جمع في نظرها بين الحرية والاستقرار وثبتت بالتجربة صلاحيته، وخضع له جميع رعاياها المخلصين، لأنه يكفل لهم حماية القانون ولا يقيد حريتهم فوق الحد الواجب
ولقد كانت السيادة البريطانية في كل ناحية من هذه النواحي سيادة موقوتة لا يمكن أن تكون