أستاذنا متشنيكوف أن يدرّب هذه الفجوسات الصغيرة على التهام كل أنواع المكروبات!)
وقَبِل متشنيكوف هذا المنصب الجديد، ولكنه احتاط فقال لرجال السلطة قول الحذر البصير:(أنا رجل أكبر همّه في النظريات، وأبحاثي كثيرة لا يكاد يتسع لها وقتي، وإذن فمن الواجب أن يتدرب غيري على صناعة الألقحة وأن يقوم بالجزء العملي من واجبات المعمل)
ولم يكن في أودسا في ذلك الوقت رجل واحد يعرف عن صيادة المكروب شيئاً. لذلك أرسلوا صديق متشنيكوف الدكتور جَمالَيّة بسرعة إلى باريس إلى معهد بستور. فلما حل فيه صَحِب بستورَ وصحب رو في عملهما وتعلم منهما الشيء الكثير، ولكن هذا الكثير لم يؤذن له ببلوغ الكفاية، فان أهل أودسا قل صبرهم، وزاد قلقهم، واشتدت رغبتهم في الخلاص من الأمراض فصاحوا يطلبون الألقحة، فاضطرت السلطة تحت هذا الضغط العام إلى استدعاء الدكتور جمالية، ولم يكن طال مقامه في باريس. فلما عاد بدأ يصنع لقاحاً لداء الجمرة تخليصاً لشياه الريف، ولقاحا لداء الكلب دفعا له عن أهل المدينة. عندئذ صاح متشنيكوف في الناس:(والآن كل شيء لا بد سائر كما نهوى) وهو يجهل كل الجهل تلك الألاعيب الثقيلة التي تلعبها المكروبات أحيانا على ممارسيها. ثم اعتكف إلى نظرياته يبحث في الأرانب والكلاب والقردة ليرى أفي استطاعة فجوساتها أن تبتلع مكروب السل والحمرة والحمى الراجعة. وانطلقت النشرات العلمية تخرج من معمله في تلاحق سريع، وأخذ بُحّاث أوروبا يتأثرون بكشوفات ذلك الرجل العبقري ببلاد الروس السفلى. ولكنه لم يلبث أن بدت له المصاعب في نظريته، فالكلاب والأرانب والقردة ليست شفافة كبراغيث الماء
ثم أخذ الحال يسوء في المعمل، فأخذ الخصام يدب بين رجاله وعلى رأسهم الدكتور جمالية، فاختلطت الألقحة وتلوثت، وانكبت على الأرض من أنابيبها. وجاء أطباء البلد يتسللون وفي قلوبهم بالطبع حفيظة وغيرة من هذا العلاج الجديد، وأخذوا يسألون الأسئلة المحرجة ليشيعوا شاعة السوء في الناس:(من هذا الأستاذ متشنيكوف؟ ومن أين جاءته الأستاذية وهو لا يحمل شهادة طبيب؟ إنه ليس إلا رجل طبيعي وصياد جراثيم، فمن أين جاءته معرفة الأمراض والوقاية منها؟)