وصاح الناس:(أين العلاج المزعوم؟!) وصاح المزارعون الذين نزلوا بأيديهم عميقاً في أكياسهم طَلَبَ النقود الكثيرة يبذلونها طواعية: (أين الحصانة الموعودة؟). واضطر متشنيكوف إلى الخروج من محرابه ساعة، والبروز من ضباب نظريته وفجوساته حيناً، ليصرف الناس عن شكواهم، وكانت الفئران عاثت في الحقول فأكلت المحاصيل، فبذر في تلك الحقول بشلة كوليرا الدجاج لتقضي على الفئران. ولكن تقريراً خطيراً كاذباً كُتِب من نار ظهر في الجريدة اليومية يتهم متشنيكوف أنه إنما بذر الموت والوبال في الحقول، لأن كوليرا الدجاج تستطيع أن تتحول إلى كوليرا الإنسان. . .!
فضجر متشنيكوف وشكا في خفوت:(ما شأني بهذا الصخب! أنا رجل باحث وأبحاثي متكاثرة عليّ، وأنا رجل ذو نظرية، ونظريتي في حاجة إلى كثير من الهدوء لتشتد وتنمو. . .) وسأل أهل السلطة إجازة فأعطوه إياها، فحزم حقيبته وذهب إلى مؤتمر فينا ليخبر كل من يجد هناك بأمر فجوساته، وليجد لنفسه ركناً هادئاً يستقر فيه ويعمل بعيداً عن الضوضاء، فلا يكون مضطراً لإثبات صحة نظرياته لسلطات قليلة الصبر تطلب خلق العلاجات، ولا يكون مدفوعا لارواء شهوة الفلاحين وتعويضهم عن كل قرش دفعوه بتعجل الأدوية وابتسار الحصانات. ومن فينا ذهب إلى باريس، وفي باريس انتظره نجاح باهر لم ينتظره، فهناك تعرف إلى بستور العظيم، فما إن تَم التعرف حتى انفجر يحدثه عن فجوسته ونظريته فيها، وَوَصَف له المعارك التي تقع بين الفجوسات والمكروبات وصفا بديعا سِمَّاويّا جذابا، وتأمل شيخ المكروب صاحبنا بعين متعبة طميسة أخذت تبرق للذي تسمع حينا بعد حين، فلما انتهى الحديث، قال بستور:(أنا في صفك يا أستاذ متشنيكوف، ذلك لأنه كثيرا ما استوقفتني معارك كالتي تصف كنت ألحظها بين شتى الأحياء المجهرية الدنيئة، وإني لأحسبك سائرا على هدى في الطريق الذي أنت فيه)
لم يكن بين المعارك التي ذكرها بستور وبين تلك التي يصفها متشنيكوف صلة أصلاً، ومع هذا فقد امتلأ قلب متشنيكوف مما سمع سروراً، وامتلأت نفسه زهواً. وكيف لا، وهذا أبو المكروبات الشيخ الأجل استمع له وفهمه ثم آمن به. . . وكان أبو أُلجا قد مات وترك لهم دخلاً متواضعاً. وتراءى لمتشنيكوف أن باريس مهد طيب لنظرية الفجوسات إذا هي آزرها معهد ذو جاه كمعهد بستور، فسأل بستور: (سيدي، أود لو يكون لي مكان في