وقد وضعنا للشعر مقياساً عاماً يتفاضل فيه الشعر باعتبار نبل أغراضه وشرف مقاصده، قبل أن يتفاضل بجماله وألفاظه ومعانيه. ولقد وازنا بهذا المقياس بين امرئ القيس وعدي بن زيد في كتابنا (زعامة الشعر الجاهلي)، وبين أبي العتاهية وبشار وأبي نؤاس فيما كتبناه في مجلة (الرسالة) الغراء عن أبي العتاهية، فخرجنا من هذا بتفضيل عدي بن زيد على امرئ القيس، وتفضيل أبي العتاهية على بشار وأبي نؤاس، وهو أمر لا يمكن أن يخالفنا فيه أحد يوافقنا على صحة هذا المقياس الذي وضعناه للموازنة بين الشعراء؛ وإنها لميزة كبيرة له يظهر فضلها إذا نظرنا فيما روى في ذلك عن خَلَفٍ فيما سبق
ولكن جمهرة أدبائنا لا يوافقون على هذا المقياس الجديد، وينكرونه علينا أشد الإنكار. وهم معذورون في هذا الإنكار أشد العذر، لأن دراسة الأدب قد سارت من نشأتها إلى الآن على خلاف رأينا في هذا المقياس، حتى إن الأصمعي رحمه الله وسامحه كان يقول: إن الشعر لا يقوى إلا في باب الشر، فإذا دخل في الخير لان. وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار وغير ذلك
وقد ذكر قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر) رأيا في ذلك أخف من رأي الأصمعي، فهو يرى أن الذي يلزم الشاعر فقط أنه إذا شعر في أي معنى كان من الرفعة والضَّعَة، والرَّفَث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والذم وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة التي يمليها على الشاعر وجدانه، ويوحي إليه شيطانه، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة
وقد حملني ذلك النفور من رأيي في قياس الشعر بأغراضه ومقاصده قبل ألفاظه ومعانيه على تقييد كل ما أجده يؤيده في مطالعاتي، فوصلت في ذلك إلى طائفة صالحة من أقوال الحكماء والشعراء، ولم أقصد من مقالي هذا إلا تقييدها على صفحات مجلة (الرسالة الغراء)
قال الأحوص:
وما الشعر إلا حكمةٌ من مؤلِّفٍ ... لمنطق حقِّ أو لمنطق باطل
وقال فكتور هوجو: الشاعر مصلح عظيم، ونبي كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى الحرية