فلم يقل شيئاً. ثم مال عليها وضمها إلى صدره، وضغط على جسمها فتراخى، وحملها على ذراعيه بسرعة، ودخل بها حقل الذرة. . . . . .
مشت جميلة إلى بيتها خائرة القوى، مرضوضة الجسم، ذاهبة اللب، وقد أسود في نظرها الوجود واحلولكت الدنيا. . . مشت ذاهلة ساهمة لا تحس بشيء مما حولها، ولا تعرف إلى أين هي ذاهبة. . . على أن رجليها كانتا تقودانها، بحكم العادة، إلى بيتها. مشت تحملق في الظلام، وهي والهة مرتاعة ترى بعد كل خطوة شبحاً، وتتصور عند كل قدم حفرة. . . . . . لقد فعلتها. . مع من؟ مع سيد الأعمى. . . لقد ساقتها قوة أزلية إلى الهاوية! لقد حملها المقدور الحتم إلى الوحل. . . لقد جرفها التيار فغاصت في الوحل إلى ساقيها
إننا نسير في الطريق مسوقين بقوة أعلى منا وأقوى. قوة جارفة لا نستطيع ردها، ولا نقوى على دفعها، تسوقنا في الظلام إلى المصير الحتم. . . لقد غدت جميلة، فتاة الريف العفيفة الطاهرة، المرأة الدنسة القذرة التي غاصت بقدميها في الوحل. . . سيظل الوحل عالقاً بها دائماً، وإن غسلت رجليها صباح كل يوم ومساءه، سيظل الوحل عالقاً بها أبداً
ستذكر دائماً إن قوة خفية ساقتها، بمحض إرادتها، إلى الوحل، قوة أعلى منها لا تستطيع فهمها ولا تحاول فهمها ولا تعليلها. هذه القوة الخفية الأزلية تعمل دائماً من وراء الحجب، تعمل أبداً من وراء الغيب، وتسوقنا إلى المصير المحتوم
ستذكر جميلة، الفتاة الريفية الجميلة المزهوة، أن قوة خفية ساقتها إلى البئر، لتقودها إلى الأعمى، ولتجرفها إلى الحقل
لا لذة ولا متعة، ولا إحساس بشيء من هذا كله، ولكنها استسلمت ورضيت، لأنه حكم عليها بأن تستسلم وترضى
لا إحساس بنشوة، ولا شعور بمتعة، وإنما مر كل شيء كالعاصفة الهوجاء وهي تلف كل شيء لفاً
لما فتحت عينيها على الدنيا الرحيبة الباسمة، من قبل، كان كل شيء قد تغير؛ كل شيء قد تغضن واربد وعلته غشاوات، ولفه السواد في جلبابه، وطوته العاصفة الرعناء في طياتها؛ كل شيء قد انمحى من باصرتها ومات وذهب مع العاصفة، وبقيت ظلمات يأخذ بعضها برقاب بعض. . . . وعليها أن تسير في جوف الظلام وتمضي