قائم في الطريق واعتمدت عليه دقائق. ولما رجعت إليها بعض قوتها استأنفت سيرها، وتقدمت تسحب رجليها سحبا، وقد آب لها بعض حسها؛ على أن جسمها كان يشوكه مثل الشوك دائما. وأخذت عينها الترعة، وماؤها يتدافع ويجري. وقد تراقصت الصور في مخيلتها واختلطت. بعد خطوات ستصل المنزل وتلاقي زوجها. وحدقت في الماء وهو يجري متدفقا منطلقا كالسهم، لا شيء يقف في طريقه، يجرف معه دقيق الحصى والتراب، ويحمل على متنه خفيف الريش، لقد حملها التيار، إلى أين ذاهبة؟ إلى أين ذاهبة؟
ما الذي سيحدث لو علم زوجها؟ سيذبحها كما يذبح الفروج. ليس أيسر على الريفي من ذلك في سبيل عرضه وشرفه، وهو ثروته الباقية على الأيام. ماذا يحدث لو علم لداتها؟؛ ما الذي سيحدث لو علم أقرانها اللواتي تزهي عليهن بجمالها وتشمخ؟ سيمزقنها بألسنتهن، وستغدو حديثهن في كل سمر، ومتعتهن في كل مجلس. ما الذي سيحدث لو علم أهلها؟ أخوها أقوى شباب القرية سيدفنها حية كما دفنت ناعسة ومبروكة وعزيزة من فتيات القرية التي حامت حولهن الشبهات، وعفى عليهن الآن ذيل النسيان فلا يستطيع أحد أن يذكرهن لأن في الذكرى جريمة. . . حتى ذكراهن عند القروي جريمة
ونزلت من الجسر إلى الدرب الذي في نهايته منزلها، ومشت مستريحة إلى الظلام المتكاثف. كل ما توده الآن هو أن تسير في جوف الظلام متقية به أعين الناس. لقد مشت على الجسر راجفة مروعة تخاف أن يبصرها خفير الدرك، ولكنها الآن في جوف الظلام آمن وأسلم
وتقدمت في الدرب متخاذلة متثاقلة تحس الأرض تنشق تحتها، تصعد أكوام الرماد الملقاة عند أبواب المنازل وتهبط معها وهي تتصور أنها ترقي تل الصحراء. ولما بلغت باب البيت وقفت لحظات. . . ثم تجاسرت ودفعته
كان زوجها نائما على السطح فانتبه على حركة الباب، وصاح بصوت جاف:
(تأخرت يا جميلة. . .)
وكان صوت زوجها يرعد. أواه ظنته نائما فإذا بعينه ساهرة، فلم تجب، وغضت رأسها ووقفت في صحن البيت جامدة. ولو بصر بها زوجها لرأى أغرب صورة. ولم ينتظر جوابها فصمت، ثم قالت بعد مدة: