وأعجبني أن أراهم في هذا المكان الهزلي الممتلئ بالضعفاء، كأنهم ثلاثُ حقائق بين الأغلاط، أو ثلاث أغلاط كبيرة. . .
وكان أبدع ما أراه على هيئة وجوههم وأسرُّ له تواضع هذا الاستعداد الحربي وتحوله إلى استعداد للسخرية. . .
ثم تأملتهم طويلاً فإذا صرامة وشهامة وسكينة ووداعة وحُسن سَمْتٍ وحلاوة هيئة في جلسة رزينة متوقرّة، لا يشبهها في حسّ النفس التي تعرف معاني القوة إلا وضع ثلاثة مدافع مصوبة
وجعلت أقلب عيني في الناس الموجودين وملامحهم وهيئاتهم ثم أرجع البصر إلى هؤلاء الثلاثة، فأرى المصريَّ كالمقتنع بأنه محدودٌ بمدينة أو قرية لا يعرف لنفسه مكاناً في غيرهما، فهو من ثم لا يرحل ولا يغامر ولا تَتَقاذفه الدنيا؛ وأرى الإنجليز كالمقتنع بأن كل مكان في العالم ينتظر الإنجليز. . . .
وخيل إلي والله أن رجلاً من هؤلاء الإنجليز الأقوياء المعتدين بأنفسهم لا يهاجر من بلاده إلا ومعه نفسه واستقلاله وتاريخه وروح دولته وطبيعة أرضه، فهو مستيقن أن الله لا يرزقه رزقاً أيَّ الرزق كان على ما يتفق، بل رزقاً إنجليزياً: أي فيه كفايته
ورأيت شيئاً عجيباً من الفرق بين طابع السلم على وجوه، وبين طابع الحرب على وجوه أخرى؛ ففي تلك معاني السهولة والملاينة والحرص على مادة الحياة، وفي هذه معاني العزم والمقاومة والحرص على مجد الحياة لا على مادتها
وتبيَّنتُ أسلوبين من الأساليب الاجتماعية: أحدهما في فرد قد بنى أمرهُ على أن أُمةً تحمله فهو يعيش بأضعف ما فيه، والآخر في فرد قد وضع الأمر على انه هو يحمل أمةً فلا يدع في نفسه قوة إلا ضاعفها
وعرفت وجهين من وجوه التربية السياسية: أحدهما بالطنطنة والتهويل والصراخ واستعارة ألفاظ غير الواقع للواقع وتحميل الألفاظ غير ما تحمل، والآخر بالهدوء الذي يقهر الحوادث والصبر الذي يغلب الزمن والعقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة على صاحبها وتجعل أعظم أجره عليها أن يقوم بها