أظهرت في سيرتها وأحاديثها من خروج على التقاليد، فيجب أن تكون قد أتت أمراً عظيما. وهي قدأتت أمراً عظيما حقا، فقد كانت تجادل في الدين ولما تبلغ الثانية عشرة، وكان جدالها هذا خطرا مخيفا. لأنها كانت تنكر أصول الدين إنكارا. وقد استعانت الأسرة ورئيسة الدير على جحود هذه الصبية بعظيم من عظماء الكنيسة وخطيب من أبرع الخطباء في عصره وهو فدعي هذا الحبر للقاء هذه الطفلة ومحاورتها، فلما رآها سمع لها وتحدث إليها وانصرف عنها يائسا وهو يقول إنها لظريفة. فلما سألته رئيسة الدير عما تصنع لردها إلى طريق الحق أطال الصمت ثم قال: ضعي في يدها كتابا من أرخص كتب الدين، ثم لم يزد على ذلك شيئا. وذكرت الصبية حين تقدمت بها السن حوارها مع هذا الحبر العظيم، فقالت: إن عقلي قد أضطرب أمام عقله، وقالت أني لم أذعن لحجته وانما أذعنت لجلاله؛ ومعنى ذلك أن الخصمين التقيا فلم يقنع أحد منهما صاحبه. فلما بلغت هذه الفتاة العشرين أو جاوزتها قليلا، زوجت من رجل شريف، عظيم الخطر، من حكام الأقاليم. ولكنها لم تكد تقضي معه أشهراً حتى أنكرته وضاقت به وكرهت عشرته كرهاً شديداً. وكانت تقول عنه إنه يبذل أقصى ما يستطيع ليسؤك ويصرفك عنه. على أنها قد أقنعته بالرحلة إلى باريس. ولم تكد تصل إلى هذه المدينة وتستقر فيها حتى اندفعت في حياة اللهو والعبث، اندفاعاً لفت إليها الناس، وجعلها موضوع الأحاديث في هذه المدينة الباسمة اللاهية.
وكان لويس الرابع عشر قد مات، وكان أمر الدولة إلى الوصي الذي أقيم على الملك، الصبي لويس الخامس عشر. وكان هذا الوصي صاحب لهو لا حد له، وصاحب مجون وعبث لا حد لهما أيضاً. وكان الناس قد ساروا سيرته كأنما أرادوا أن يعوضوا ما فاتهم في تلك الأيام الحزينة التي ختمت حكم الملك الشيخ، وما أسرع ما اتصلت صاحبتنا بقصر الوصي واشتركت فيما أقام فيه من حفلات، ثم اتصلت بالوصي نفسه، وأصبحت له خليلة ولكن حبه لها لم يتجاوز خمسة عشر يوماً. على إنها قد ربحت من هذا الحب القصير ستة آلاف من الجنيهات الفرنسية، تصرف لها في كل عام ما امتدت لها الحياة. وأسرفت صاحبتنا في اللهو حتى أنكرها أصحاب اللهو من أهل باريس، وحتى ساءت الصلة بينها وبين زوجها، فافترقا دهراً ثم كان بينهما صلح لم يطل، وعادا إلى الفرقة. ثم كان بينهما