صلح آخر، قوامه أن يلتقيا على الغداء والعشاء. وإلا يعيشا معاً، ولكن هذا الصلح نفسه لم يتصل أيضاً، ففرق بينهما وعاد الرجل إلى قصره في الأقاليم وأقبلت هي على لهوها في باريس لا تدع فناً من فنون العبث إلا أخذت منه بحظ عظيم، على أنها لم تكد تجاوز الثلاثين حتى تبينت أن ما هي فيه من الأمر باطل كله، وحتى سئمت اللهو وعافته، وأخذت تحس انصراف الناس عنها. فآوت إلى أخ لها قسيس أقامت عنده دهراً ثم انصرفت عنه إلى أخ آخر لها في الأقاليم، ثم عادت مرة أخرى إلى باريس. واتصلت بقصر من قصور الأشراف كان يؤوي أكبر من تعرفهم فرنسا وأوروبا من الأباء والفلاسفة، وأصحاب الفن، وفي هذا القصر ظهرت قيمتها الأبية، واستكشفت براعتها في الحديث وتبين الذين عاشروها أنها امرأة ليست كغيرها من النساء، بل ليست ككثير من الرجال، وانما تمتاز بقلب ذكي، وعقل قوي، ولسان فصيح عذب، ومهارة في تصريف الحديث لا تبلغ الإعجاب وحده، ولكنها تبلغ إعجاز المحدثين مهما تكن منزلتهم، ومن ذلك الوقت أخذ أمر هذه المرأة يعظم. وشأنها يرتفع، لا من حيث أنها امرأة جميلة خلابة. تحب اللهو وتسرف فيه، فقد كانت في ذلك الوقت قد بدأت تقصر عن اللهو وتعري أفراس الصبي ورواحله، كما يقول زهير، بل من حيث أنها امرأة أديبة أريبة يستطيع أن يستمتع بحديثها، وعشرتها، وبراعتها ذوو العقول. وقد آثرتها صاحبة القصر إيثارا عظيماً حتى لم تكن تصبر على فراقها، وأحبها فولتير وكلّف بها منتسكيو وأطاف بها أعلام الأب والفلسفة من الفرنسيين يستبقون إلى مودتها، وما هي إلا أن تتخذ لنفسها داراً في باريس وتدعو إليها أصدقائها هؤلاء من الأباء والعلماء والفلاسفة يسمرون عندها يوم الأربعاء من كل أسبوع. ثم تضيق هذه الدار بمن يقصد إليها من رجال فرنسا وأوروبا على اختلافهم فتتحول عنها إلى دار أخرى رحبة تستأجرها في دير من هذه الأديرة الأرستقراطية في باريس. وفي هذه الدار التي استأجرتها كانت تقيم قبلها مدام دي منتسبان خليلة لويس الرابع عشر، تلك التي ملأت حياة الملك العظيم لذة وإثماً، وكلفت رجال الدين من حوله مشقة وجهداً، والتي كانت تؤوي إلى هذا الدير من حين إلى حين تستغفر الله من خطاياها وتضرع إليه في الوقت نفسه أن يحفظ عليها هذه الخطايا. أقامت صاحبتنا في هذه الدار ونظمت استقبالها لأعلام فرنسا مرتين في الأسبوع يتناولون عندها العشاء ويسمرون إلى