قريب من آخر الليل، ويتحدثون فيما شئت من أدب وعلم، ومن فلسفة وفن، ومن سياسة وحرب. ولكنها لم تكن تحب أن تشارك الأباء والعلماء والفلاسفة فيما كان يجري بينهم من حوار؛ لأنها كانت تكره الأب والعلم، وكانت تكره الفلسفة خاصة وتضيق بها ضيقاً شديداً، وكانت تعنى بأشخاص زائريها أكثر مما تعنى بما كان عندهم من علم، أو أدب، أو فلسفة. كانت مسرفة في الشك وكان إسرافها في الشك يصرفها عمّا كان يكلف به الناس في عصرها من هذه الفلسفة الحرة الغالية التي كانت تعمل في الهدم أكثر مما كانت تعمل في البناء. وتتقدم السن بصاحبتنا وقد مات زوجها وأصبحت حرة حتى أمام القانون، وقد جدّت بتنظيم حياتها وانصرفت عن اللهو والمجون إلى حياة الجد ولذة الحديث والسمر، ولكنها على ذلك اتخذت لها خليلاً عاشت معه عيشة الأزواج، لم تكن تحبه ولكنها لم تكن تكرهه، إنما كانت تستعين به على احتمال الحياة، كما كانت تستعين بكل شئ على احتمال الحياة، فقلما عرف تاريخ الآداب امرأة ضاقت بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة، بل قلّما عرف تاريخ الآداب رجلاً ضاق بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة. كانت متشائمة كأشد ما يكون التشاؤم، وكانت تردد هذه الكلمة التي تقربها من أبي العلاء: إن شر من ابتلينا به من الشقاء، إنما هو الحياة. وكانت تستعين بإسرافها في المجون والعبث، ثم في الجد والإنتاج الأبي على احتمال الحياة، ولعلها لم تله، ولم تعبث ولم تجد الاّ لتنسى الحياة وتنصرف عن نفسها. فقد كانت تكره العزلة وتخافها خوفاً شديداً، فكانت تسهر الليل، ولا تنام الا قليلاً في النهار، وتنفق وقتها قارئة أو لاهية أو مستقبلة. ولا تكاد تبلغ الخمسين من عمرها حتى يتم الله محنته لها، وحتى يأخذها الشقاء من كل وجه. فهذا حجاب رقيق يلقى شيئاً فشيئاً بينها وبين النور، ثم يتكاثف هذا الحجاب قليلاً قليلاً، وهي تحس ذلك وتجزع له وتلجأ إلى الأطباء والسحرة، والمشعوذين، فلا تجد عند أحد منهم شيئاً. والحجاب يتكاثف ويتكاثف، حتى يستحيل إلى سور صفيق يقطع كل سبب بينها وبين الضوء وإذا هي عمياء.
أفتظن ذلك قد غير من سيرتها أو اضطرها إلى شيء من القصد والاعتدال، ليس من شك في أنها قد حزنت لذلك حزناً عميقاً ولكنه حزن أضيف إلى حزن. حفظته في أعماق نفسها ولم تظهر منه للناس شيئاً. إنما كتبت إلى بعض أصدقائها من أعلام الأب والسياسة تنبؤهم بهذه الكارثة فمنهم من رق لها كفولتير، ومنهم من عبث بها كمنتسكيو، وكلهم قد مضى في