تبلغها ظفرت بالحب عند هذا الإنجليزي، وظفرت به من غير طريقه كما كان يقول المعاصرون، فان العيون هي أوضح طرق الحب إلى النفوس، ولكن الحب قد يسلك إلى النفوس طريق الآذان كما قال شاعرنا القديم. وأكبر الظن أن صوت هذا الإنجليزي هو الذي حمل الحب إلى نفس هذه الفرنسية فثبته فيها تثبيتا.
وفي سنة ١٧٨٠ ماتت هذه المرأة وكتبت قبل موتها بقليل جدا إلى صاحبها كتابا تنبؤه فيه بقرب آخرتها. وتنبؤه بأنها لا تأسف لفراق الحياة، لأنها لا ترى في الحياة خيراً بعد أن كتب إليها أن لا تلقاه. وتنصح له بأن يستمتع بالحياة ما استطاع، وتنبؤه بانه سيحزن عليها، فليس من اليسير أن يتعزى الناس عمن كان يؤثرهم بالحب. فلما أتمت إملاء كتابها هم سكرتيرها الشيخ أن يقرأه عليها كعادته، فلم يستطع لأنه كان يقطع قراءته بالبكاء. هنالك أحست هذه المرأة المتشائمة اليائسة التي أسرفت في سوء الظن بالناس؛ أحست أن هذا السكرتير لم يكن يعمل عندها ليعيش. فقالت له بصوت خافت فيه نغمة الموت، وفيه مع ذلك نغمة الرضى والغبطة أكنت تحبني إذا؟
هذه صورة من صور هذه المرأة وهي من غير شك أشد هذه الصور اتصالا بالنفوس، وتأثيرا بالقلوب. ولكن لهذه المرأة صورا أخرى عظيمة الخطر جدا في حياة الأب الفرنسي. فقد كانت ناقدة، ولها في أدباء فرنسا، وفي كبار أدبائها خاصة آراء قيمة تثير الإعجاب لرقتها ولبراعة الصياغة التي كانت تعلن فيها. كانتتؤثر فولتير، وكانت تضيق بروسو فانظر إلى هذه الجملة البديعة التي تنقد فيها أسلوب جان جان:(إن لروسو حظا من الوضوح، ولكنه وضوح البرق، وله حظمن الحرارة ولكنها حرارة الحمى).
واتصلت هذه المرأة بأصحاب السياسة، واتصلت بالعظماء والأشراف وكانت منهم، وقد كتبت إليهم وتلقت منهم الكتب وقد صورتهم وصوروها، فهذه ناحية أخرى من حياتها لها أثرها في توضيح التاريخ السياسي والاجتماعي لفرنسا في القرن الثامن عشر وقبل الثورة الفرنسية الكبرى.
وبعد فلعل أحسن ما كتب عن هذه المرأة إلى الآن فصلان كتبهما سانت بوف في أحاديث الاثنين تستطيع أن تقرأ أحدهما في الجزء الأول، وثانيهما في الجزء الرابع عشر، فان أردت الإيجاز المقنع فاقرأ الفصل الذي نشر عنها في (مجلة العالمين) أول أغسطس، فان