المودة والحب بينهما ما أقام في باريس، فلما رجع إلى لندرة اتصلت بينهما الكتابة، وكان يأتي إلى باريس من حين إلى حين ليرى حبيبته أو ليرى عاشقته، أو ليرى يتيمته، كماكانت تسمي نفسها، فقد كانت تسمي نفسها يتيمه وتسميه هو وصياً. وكان هو يسميها ابنته الصغيرة. وكان الحنان بينهما كأقوى ما عرف الناس من الحنان بين المحبين. وكانت نتيجة هذا الحب أربع مجلدات نشرت بعد موتها وفيها ثمانمائة من الرسائل التي اتصلت بينهما. وهي آيات من آيات الأب الفرنسي لا أكثر ولا أقل، فيها تصوير لهذه العواطف النادرة، الشاذة، التي لم يألفها الناس والتي تملأ قلوبهم مع ذلك رحمة وبرا، وإشفاقا، وعطفا. وما رأيك في هذه الضريرة التي نيفت على السبعين والتي تكتب لصاحبها رسائل حب وغرام كرسائل الفتيات اللاتي لم يتجاوزن العشرين. على أن صاحبها كان إنجليزيا، ومعنى ذلك انه كان يخافالسخرية، والمزاح، وكانت الرقابة مضروبة على الرسائل في إنجلترا ذلك الوقت. فكان صاحبنا مروعا دائما يخشى أن تفض رسائل صاحبته، وأن يعرف ما فيها من هذا الحب الغريب، فيتندر الناس به في القصر وفي الأندية. فكان يرد صاحبته إلى القصد في تصوير عواطفها الحارة، وكانت هي تخاصمه في ذلك، وكان الأمر يفسد بينهما أحيانا، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى خير ماكان. وانقطعت رسائله عنها مرة فكتبت إليه: يظهر انك لا تريد أن تظهرني من أمرك على شيء، فاحذر أيها الوصي أن تصبر على ذلك فاني خليقة إن فعلت أن أرسل إليك سكرتيري وأن أكلفه الإسراع إلى لندرة وآمره أن يلزمك وأن يرسل إلي بأنبائك، وأن يعلن إلى الناس جميعا وفي كل مكان أني يتيمتك، وأنك وصيي، وأني أحبك، وأن يهيأ لي عندك مكانا فالحق به، وأعلن إلى الناس جميعا ما بيننا، لا أخاف فضيحة مهما تكن، فاختر لنفسك بين الفضيحة والكتابة إلي. ولعلها كانت في بعض الوقت تذعن وتطيع، وترد نفسها إلى القصد ثم تثور فترسل نفسها على سجيتها وتطلق حبها صريحا حراً. وكذلك عاشت هذه المرأة خمسة عشر عاما، استرد قلبها فيها شبابه كله وتبينت هي وتبين هو وتبين الناس في عصرهما، ومن بعدهما أن ما اندفعت فيه هذه المرأة من العبث واللهو، ومن المجون والفساد، ثم من الجد الخصب والنشاط المنتج، كل ذلك لم يكن إلا ضيقا بالحياة وافتقاداً لهذا النور الذي يحببها إلى النفس. وهو الحب، ومصارعة لهذا العدو الفاتك وهو اليأس، فلما بلغت السبعين أو كادت