لا ترونهم)، ووالله يا بني إني لأشد أنفَةً منك وأن صدري لشجيُ مما أنا فيه من هذا الكرب، ولكننا نحن الشرقيين قد ضعنا منذ فقدنا الشخصية الاجتماعية
أتراك تفهم شيئاً لو قلت لك: رجل، أسد، جبل، مدينة، أسطول؟ أن تركيبنا الاجتماعي شيء كهذا الكلام فيه من ضخامة اللفظ بقدر ما فيه من انحلال المعنى واضمحلاله. ولكل كلمة إذا أفردت معنى صحيح يقوم بها وتقوم به غير أنه يتحول في الجملة إلى معنى كلا معنى
أصبح الشرقي يعيش في أمته على قاعدة أنه منفرد لا صلة بينه وبين الأطراف لا في الزمان ولا في المكان. ونسى معنى الحديث الشريف:(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً) فماذا كان يريد أعظم المصلحين الاجتماعيين من قوله (كأنك تعيش أبداً) إلا أن يقرر لأمته أن الفرد ينبوع الأجيال المقبلة كلها فليعمل لها ولنفسه كأنها موقوفة عليه وكأنه مستمر فيها
هذه حكمة إسلامية دقيقة عندنا نحن لفظها ولسنا نعرف معناها، وعند الإنجليز معناها ولا يعرفون لفظها. أهم المسلمون أم نحن؟
وعلى قاعدة الانفراد انفرد كل شيء، فآثر الشرقي حياته على وطنه، وقدم لذته على واجبه، وتعامل بالمال في مواضع المعاملة بالأخلاق؛ وكان طبيعياً مع هذا أن يختصر الدين اختصاراً يجعله مقداراً بين مقدارين فلا هو دين ولا هو غير دين، وبذلك يناسب فرديته ويقعد تحت حكمه وهو خارج عليه. فترى الرجل من هذه الملايين يؤمن بالله وهو يحلف به كذباً على درهم، ويصلي ويفجر في يوم واحد، ويتعبد في نفسه ويخون سواه في وقت معاً
ومتى كانت الحالة النفسية للأمة هي هذه الفردية ومصالحها ودواعيها كان الكذب أظهر خلال هذه الأمة، إذ هو انفراد الكاذب بحظه ومصلحته وداعيته؛ ولا يكذب عليك إلا من يرجو أن تكون مغفلاً أو من قدر في نفسه أن المعاملة العامة في الأمة هي على قاعدة المغفلين. . . ويكذبون في هذا أيضاً فيسمونه حذقا وبراعة (وشطارة)
وإذا عمَّ الكذب فشا منه الهزل؛ فكل كاذب هازل، وهل يجدٌّ الكاذب وهو يكذب إلا إذا كان مجنونا؟ ومن الهزل ضربٌ هو المباسطة بالكذب، ومنه ضربٌ من كذب الحقائق، ومنه من كذب الخيال، وكيفما دارت الحال لا تجده إلا كذباً