ومتى صار الكذبٌ أصلاً يعمل عليه، تقرَّر عند الناس أن الكلام إنما يقال ليقال فقط أفلست ترى الرجلين إذا أخبر أحدهما صاحبه بالخبر فيه شيء من الغرابة أو البعد، لا يكلمه الآخر أول ما يتكلم إلا أن يسأله: صحيح؟ صدق؟
ولا اضر على الأمة من هذه العقيدة - عقيدة أن الكلام يقال ليقال فقط - فإنها هي طابع الهزل على أخلاق الأمة وعلى كل أحوالها وعلى حكومتها أيضاً
ومن الهزل والكذب ترانا مبالغين في كل شيء حتى ليكون لنا الواحد كالآحاد في غيرنا فنجعله مائة بصفرين نجيء بأحدهما من اعتيادنا الكذب على الحقيقة، ونجيء بالآخر من حقيقة إفلاسنا. هذه مبالغة خطرة وأخطر ما فيها أننا نريد بها المبالغة في الدلالة على الأشياء، فتنقلب مبالغةً في الدلالة علينا نحن وعلى كذب طباعنا وعلى فوضى العقل فينا. نعم وحتى تثبت أننا لا عزم لنا من كونها مبالغة لا تدقيق في معناها، وأن لا صبر لنا من أنها لا ثبات لحقيقتها المهزومة، وأن لا شدة لنا في طلب الحق لأننا بها من أهل الغفلة في وصف الحق، وأننا لا نتمثل العواقب إذ نرسل الكلام إرسالاً ولا نخشى ما يكون من عاقبته. وأيسر ما يفهم من هذه المبالغات التي أصبحت طريقة من طرق الشعب في التعبير - أن هذا الشعب لا يصلح في شيء إلا بالحكومة، فهو نفسه كالمبالغة، والحكومة له كالتصحيح. وهذه هي العلة في أن الشعب الكذوب يلجأ إلى حكومته في كل كبيرة وصغيرة في العمل، كما أنها هي العلة في أن حكومته تكذب عليه بكل صغيرة وكبيرة في السياسة
ومن أثر الكذب الشعبي والمبالغة الشعبية ما نراه من اهتمام كل فرد بما يقول الناس عن أعماله فيديرها على ذلك وإن قلت منفعتها، وإن فسدت حقيقتها، وإن جلبت عليه من الضرر في ماله ونفسه ما هي جالبة؛ فقاعدتهم هي هذه: ليس الشأن في الحياة للعمل في نفسه ولكن فيما يقال عنه، فإن لم يقل شيء فلا نعمل شيئاً. . .
هذه يا بني أمة لا يكون حكامها إلا مبالغات أيضاً
قال صاحب السر: وأرتفع من الطريق صوت بائع ينادي على سلعته: أحسن من التفاح يا طماطم. . .
فضحك الباشا وقال: هكذا يقولون لنا عن الطماطم السياسي العفن، إنه ليس تفاحاً وحسب، بل هو أحسن من التفاح