للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مضطرباً، فياضاً بالحروب والفتن؛ ولا ريب أن المقري لم ترقه هذه الحياة المضطربة، وأنه اضطر إلى مغادرة المغرب تفادياً من عواقب الفتن والدسائس المستمرة التي كانت تكدر صفو الحياة في فاس، وعلى كل حال فقد غادر المقري وطنه في أواخر سنة ١٠٢٧هـ، وركب البحر إلى مصر، وعانى من اضطرابه وروعته أهوالاً يصفها لنا في عبارات قوية مروعة؛ والظاهر أيضاً أن سفينته كانت تخشى مطاردة القرصان النصارى، فكان الخوف مضاعفاً؛ وقد كانت مياه البحر الأبيض المتوسط يومئذ مسرحاً لمعارك هائلة مستمرة بين سفن المسلمين والنصارى، ووصل إلى مصر بعد رحلة شاقة مزعجة في أواخر سنة ١٠٢٧هـ؛ ونزل بالقاهرة فبهرته معالمها ومحاسنها برغم ما أصابها في ظل الحكم التركي من عفاء وتدهور؛ وأقام بها أشهراً، ثم اعتزم الرحلة إلى الحج في أواخر سنة ١٠٢٨هـ (١٦١٨م) فركب البحر إلى الحجاز وطاف بالأماكن المقدسة، وعاد إلى القاهرة في المحرم من العام التالي؛ ثم زار بيت المقدس في شهر ربيع الأول، وعاد إلى القاهرة واستقر بها؛ وتزوج سيدة مصرية من سيدات الأسرة الوفائية؛ ولكنه لم يكن زواجاً موفقاً، وقد فصمت عراه كما سنرى بعد أعوام من الحياة الزوجية الكدرة. وكرر المقري الرحلة إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج مراراً، فلم تأت سنة ١٠٣٧هـ حتى كان قد أداها خمس مرات؛ وجاور أثناء الحج في مكة، وألقى فيها كثيراً من دروسه، وأملى الحديث في المدينة، وعاد إلى مصر من حجته الخامسة في فاتحة سنة ١٠٣٧ (١٦٢٧م)

واستقر المقري في القاهرة طوال هذه الأعوام، ولازم الدرس والتدريس بالجامع الأزهر، وتبوأ مكانته في مجتمع مصر العلمي والأدبي، وفي رجب سنة ١٠٣٧هـ زار المقري بيت المقدس مرة أخرى، وألقى بعض دروسه بالجامع الأقصى، ثم غادرها بعد بضع أسابيع إلى دمشق، فبهرته محاسنها كما بهرته القاهرة من قبل؛ ورحب به كبير علمائها ومفتيها الشيخ عبد الرحمن عماد الدين؛ واتصل بكثير من أدبائها وأعيانها وبالأخص بالمولى أحمد أفندي شاهين وهو من أعيانها الأدباء؛ وألقى بعض دروسه في الحديث في الجامع الأموي فاحتشد الطلاب حوله من كل صوب، وحفل به المجتمع الدمشقي. وكان يبكي السامعين بخطبه ومواعظه، ويتسابق العلماء والطلاب إلى لثم يده؛ وكان أثناء إقامته بدمشق يكثر الحديث في حلقاتها الأدبية عن الأندلس ومحاسن تاريخها وذكرياتها وبالأخص

<<  <  ج:
ص:  >  >>