للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الشرق، وكل شيء في عادات الشرق وتقاليده تعافها النفس، وينفر منها الطبع، وعلى الجملة فالله تعالى الواهب ما شاء لمن شاء قد جعل الحسن كله في ناحية، وقال له كن الغرب فكان، وجمع القبح كله في ناحية وقال له كن الشرق فكان، وهم إذا لم يقولوا ذلك كله جهاراً آمنوا به أيمانا، وصدرت عنه أفعالهم، واتجهت إليه حياتهم. ودعاة العلم من هذا الطراز، فكتب العلم العربي إنما تصلح لدارس التاريخ أو طعمة للنار، وماذا فيها إلاّ تخريف أو تحريف، قد كانت نتاج القرون الوسطى، ونحن نتاج العصر الحديث (ومالي وللسياسة ودعاتها فلأهربن منها إتقاء لنارها) ومجالسنا صدى لهذا الصوت، فإذا أستثنيت عُشر معشارها فكلها نقد للأخلاق وطعن في حياة الشرق، وتهجم على حال أمتهم، وتجهم لكل ما يصدر منهم، وقلّ أن تسمع صوتاً ينطق بمدح أو يعجب ببطولة، أو يتغنى بعمل مجيد.

هذه نغمة مملولة كانت أجني على الشرق من كل عيوبه، ولن تفلح أمة من غير ذخيرة تعتز بها، ومجد طارف وتليد تعتدٌ به، ونعرة قومية تدعوها إلى الفخر والإعجاب، ولأمر ما قال تعالى (كنتم خير أمة أُخرجت للناس) وليس عبثاً أن يكون في أناشيد الألمان (ألمانيا فوق الجميع) وأن يعتقد بعض الأمم في أنفسهم أنهم شعب الله المختار، ونحو هذا ممّا ينعش الأمل، ويدعو إلى العمل.

تلك ظاهرة نفسية لا مجال لإنكارها، فاعتقد الغباوة في طفلك وكرّر عليه اعتقادك تقتل كل ما فيه من ذكاء، وأعلن أنه ذكي وشجعه على ما يبدر منه من ضروب الذكاء تستخرج أقصى ما عنده من عقل. وفي المثل الإنكليزي (دَعَوا الكلب عقورا فشنق) يعنون أنهم اعتقدوا في كلب سوءاً وسمّوه عقورا وظلوا يطلقون عليه هذا الاسم حتى صدر منه من أفعال السوء ما أستوجب قتله. وفي أمثالنا العامية (قالوا للفلاح يا حرامي شرشر منجله) ذلك أن الاتهام يحمل على ارتكاب الجريمة من ناحيتين: من ناحية الإيعاز، فمن اتهمته فقد أوعزت إليه واقترحت عليه العمل وأظهرت له الجريمة ماثلة أمام عينه حيناً بعد حين، ومن ناحية أن أكبر ما كان يمنعه من الشر خوفه أن يتهم بالشر، فإذا اتهمته فقد كان ما يخشاه، وأقدم على ما كان يتحاماه، هذا إلى ما يوحيه الاتهام الدائم من شعور باطني يسيره نحو العمل وفق الاتهام، وهذا هو السر في

<<  <  ج:
ص:  >  >>