للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أو محقق أو ناقد، وإنما يقول لنا انه ناقل فقط يورد من المعلومات والشذور ما اتفق ولا يعني بتمحيصها أو تحقيقها. ولكنا مع ذلك نشعر أن للمقري في كتابه شخصية قوية، ونشعر بالأخص بأن حرارة خاصة تنبعث من هذه الصحف الأندلسية؛ ذلك أن المقري يكتب عن الأندلس بروح يضطرم إعجاباً وأسى؛ ولا غرو فقد كانت ذكريات الأندلس ما تزال في عصره حية مضطرمة في المغرب، ولم يكن قد مضى أكثر من قرن على سقوط الأندلس النهائي في يد إسبانيا النصرانية؛ بل لقد وقع في عصر المقري بالذات حادث أذكى هذه الذكريات الشجية، هو نفي (الموريسكيين) أو العرب المتنصرين من إسبانيا (في سنة ١٦٠٩م - ١٠١٧هـ) والعرب المتنصرون هم بقية الشعب الأندلسي المجيد أرغموا على التنصر بعد سقوط الأندلس؛ وقد وفدت منهم عند النفي عشرات الألوف إلى ثغور المغرب وقواعده، وعاد معظمهم إلى الإسلام. وشهد المقري هذه الخاتمة المؤسية، وهو يومئذٍ بفاس، وشهد ألوفاً من أولئك العرب المتنصرين، وتركت هذه الذكريات والمشاهد المؤلمة في نفسه أعمق الآثار، وأذكت في نفسه بلا ريب شغف التنقيب عن تاريخ الأندلس وماضيها المجيد وأيامها الزاهرة

وقد وضع المقري كتابه عن الأندلس في القاهرة كما قدمنا، ولكنه كان قد جمع معظم مواده في المغرب. ويقول لنا المقري إنه عنا منذ شبابه بالتنقيب في تاريخ الأندلس وأحوالها وآدابها وأنه استخرج من مراجعه أغزر المواد وأنفسها، ولكنه تركها بالمغرب، ولم يستصحب معه حين الرحلة سوى القليل منها، ومنها أوراق سودها، وأشياء علقت بذاكرته. ويقول لنا أيضاً: (إنه لو حضره ما خلفه مما جمع في ذلك الغرض وألف، لقرت به عيون، وسرت ألباب. . .)؛ وإذا كان المقري يعني بهذا القليل من مادته ما ضمنه كتابه، فلا ريب أن ما جمعه من المواد الأصلية كان غزيراً جداً، ذلك لأن هذا القليل الذي ضمنه (نفح الطيب) هو في ذاته مجموعة حافلة من المواد والوثائق المختلفة التي تلقى أعظم الضياء على تاريخ الأندلس وآدابها

وقد قلنا إن المقري ناقل ومصنف؛ ولكن له في هذا النقل والتصنيف فضلاً لا يقدر؛ فقد نقل إلينا عشرات الشذور والوثائق من مصادر أندلسية جليلة لا وجود لها اليوم، بل نقل إلينا رسائل وكتباً برمتها بددت ولم نظفر بأصولها حتى اليوم؛ ولولا عناية المقري بنقلها

<<  <  ج:
ص:  >  >>