أما التفسير بالمصادفة فهروب من المسلك العلمي، وأما السليقة العربية الموروثة فلاشك في وجودها؛ وفي أنها وحدها التي تقوم ألسنتنا، وتصحح عبارتنا، على قدر ما تلقى من العناية والرعاية، وعلى قدر ما نتعهدها به من التربية التي تناسب طبيعتها، فأين نلتمس هذا النوع من التربية؟
أنلتمسه في كتب النحو وقواعد العربية كما يفعل الناس جميعاً، فيظن الواحد منهم أن من تجرع جرعات من الألفية أو الدروس النحوية كان خليقاً أن تصح سليقته، ولا يخطئ من بعد في كلمة من الكلام؟
لو جاز هذا الجاز للرجل الضعيف المتهالك أن يقرأ مجموعة من مجاميع الرياضة البدنية، أو يستظهرها، أو يستبطن أسرارها ومواطن تأثيرها، فإذا هو قد اصبح، بسحر هذه المجموعة، قوياً نشيطاً مهزوزاً تتألق عليه الفراهة والعافية، وإذا هو قد اصبح كذلك الرجل (الفلاح) الذي يغذي موطن القوة فيه غذائها الطبيعي من الشمس والهواء والعمل. ولكن أحداً لا يقول هذا ولا يتوهمه، والأمر لا يعدوا هذا القياس في تربية الغريزة اللغوية
وأني لأعرف فريقين من الناس بأعيانهم معرفة صحيحة صادقة يمثلاًن طرفي هذه الحالة التي نتناولها ويثبتان القضية التي نقررها طرداً وعكساً
أما أحد هذين الفريقين فقد صرف عن النحو صرفاً، حتى لا يكاد يعرف من قواعد النحاة حرفا؛ ولكن مزاجه الفني أقبل به على ينابيع الأدب العربي فأقبل على الكتب الأدبية يقرؤها ويتذوقها ويملأ نفسه بما فيها من جمال ومتعة، فصفت بذلك سليقته، وصحت ملكته، حتى ليحس اللحنة في الكلام، كما يحس الموسيقي النشوز في الألحان. واستقام لسانه حتى لا يكاد يلحن أو يخطئ
وأما الفريق الآخر فطائفة من شيوخ الأزهر الذين أدركنا أعقابهم، قرءوا من كتب النحو الأجرومية والكافية وما بينهما، وأحاطوا بقواعد النحاة وما دار حولها من خلاف وجدل، وربما أدركوا سر الكثير منها، ثم كان الواحد منهم مع هذا لا يكاد يصيب فيما يقرأ أو يكتب إلاّ بعد تكلف شديد، فما أغنى عنه ما بذل من جهد جهيد وعمر مديد في قراءة النحو وتفهم مشكلاته واستيضاح غوامضه. فماتت سليقته اللغوية ولما تستروح الحياة، لأنه لم