يعرف الناس جميعاً - يذهبون إلى البادية، ويندمجون في الحياة العربية، فيهيئون بذلك لسليقتهم سبيل القوة، فتصبح من بعد ذلك المتحكمة في منطقهم والمصرفة لألسنتهم، وليس لدينا مثل هذه الحياة العربية التي كانوا يلجئون إليها، ويندمجون فيها؛ ولكن إذا فاتنا ذلك فإنا نستطيع أن نعيش بقلوبنا وعقولنا في حياة عربية اللسان، فيكون لهذه ما لتلك من الأثر الطيب المبارك. أما هذا النحو فقد أعلن إفلاسه فيما نطلبه من أجله، وهو عصمة اللسان من الخطأ في الكلام، منذ عهد ابن خالويه إلى أيامنا هذه. ولن تجد امرأ صحيح اللسان قويم المنطق إلا وهو يرجع الفضل في هذا إلى ما أمد به سليقته من الآداب العربية
ويعلل ابن خلدون وجود الملكة العربية في بعض المهرة في صناعة الأعراب بدراستهم لكتاب سيبويه، وطول مخالطتهم له لا من ناحية ما تناوله من تقرير القواعد. بل من ناحيته الأدبية (فانه لم يقتصر على قوانين الأعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه، والمحصل له، قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج محفوظه في أماكنه، ومفاصل حاجاته، وتنتبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة
ولسنا نضع بهذا - معاذ الله - من قيمة النحو، وإنما نريد بهذا أن نضعه في مكانه الحقيقي، ونلتمس به غايته الطبيعية، وهو معرفة قوانين اللغة العربية، والنفوذ إلى أسرار التركيب فيها. وأكبر به من مكان، وأعظم بها من غاية!
ترى لو كان أمر اللغة كأمر العلوم الأخرى التي تتلقى قوانينها واحدة بعد الأخرى، ثم لا يشعر صاحبها إنها غيرت في كيانه الداخلي، لو كان الأمر كذلك في اللغة أكنا نشعر بهذا الاستهجان والمضض الشديد حين نسمع خطيباً يلحن أو يغير في الوضع العربي، ونحس بعباراته الملحونة كأنما أصابت موضع الكرامة أو العزة فنتململ ونتضجر كما نحس حين نسمع رجلاً يتناول ديننا أو وطننا أو قوميتنا بما نكره؟ وماذا لو أن رجلاً أخطأ في تقرير قاعدة أو تطبيق قانون علمي؟ فهذا الفرق القائم بين اللغة والعلوم الأخرى ينبغي أن يراعي في التربية والتثقيف. فكما لا يجدي تلقين القوانين الدينية والتعاليم الشرعية في تكوين الضمير وتربية العاطفة الدينية. وعصمة الرجل عن الزلل في الحياة، كذلك لا تغنى القواعد النحوية شيئاً في عصمة اللسان وتصحيح الكلام