ثم أمَّ قاسيون، فلما استوى على (المسطبة) ورأى هذا المنظر استخفه الطرب فصاح:
- ما على الأرض أجمل من دمشق! ما على الأرض أجمل من دمشق!
فصحت عزيمة الوالي على إنشاء الحي، وبادر إلى الأمر ببناء هذا (القصر الأبيض)
واستدار الفلم فرأى ناظم باشا قائماً في شرفة القصر، يتأمل في الوفود الذين أتوا ساحة القصر، ليكرموا الرجل الذي تغلبت إرادته الماضية على الصخر الأصم فخرقته، وعلى البعيد النائي فقربته، حتى تم مد القناة العظيمة من الفيجة إلى دمشق لتسقي اهلها، وتسيل في هذا الحي الذي قام ليكون زينة دمشق وعروسها. . .
ورن في أذنيه صوت الخطيب وهو يقول للوالي:
(. . . . . . إن دمشق التي أحببتها وسقيتها وعمرتها، لن تنسى فضلك أبداً: ولن تحيد عن حبك وإكبارك، وسيظل منقوشاً على أفئدة أبنائها إلى آخر الدهر هذان الاسمان العظيمان اسما مصلحي دمشق: مدحت باشا. وناظم باشا)
ثم انقطع (الفلم) وتبدد الحلم، وأحس الشيخ بيد قوية تقبض على كتفه، فعاد إلى نفسه ورفع رأسه فإذا الجندي القائم على باب القصر، يصيح به:
ماذا تصنع هنا أيها المتشرد؟
ثم يكسعه ويضربه أم كيسان، فيقوم الشيخ ورأسه إلى الأرض من غير أن ينطق بكلمة. . .
عاد الشيخ أدراجه يطوف الحي، ويدخل من شارع إلى شارع، فلا يعرفه أحد ولا يفتح له باب، حتى إذا نال منه الجوع، وبرح به التعب، رأى زقاقاً ضيقاً فولجه، حتى إذا انتهى إلى بيت حقير من بيوت المهاجرين الأولين، وقف ينظر إليه، وتبرق عيناه كأن مرآه يذكره بشيء، ثم مد إلى حلقة الباب يداً مرتجفة فقرعه قرعة ضعيفة، ولبث ينتظر؛ فلما لم يرد أحد عاد وقرعه وشدد القرع، وسكت فلم يسمع إلا صدى أصوات الغناء والطرب تهبط عليه من أعالي الجدران، تهزأ بالفقراء، وتسخر من الحياة، فعاد يخبط خبطاً قوياً وينادي:
- كريتلي زاده. . . كريتلي زاده محمد أفندي. . .
فتحركت عجوز من أقصى الدار، وصاحت:
- من هذا الذي يسأل عن محمد أفندي؟