فلما ابتعد فتش جيوبه، وقلبها كلها، فلم يجد إلا فرنكين كان يدخرهما لعشائه فدفعهما إليها، ومشى قبل أن تسمع ما يقول:
عاد يطوف في الحي يخرج من شارع إلى شارع منفرداً منكراً، ولقد فارق دمشق وهو ربها وسيدها، وصاحب الأمر والنهي فيها، ولكن هذه الأعوام التي كرت سريعة محملة بالأحداث الجسام قد بدلت كل شيء
لقد انفجر بركان الحرب، فهد هذا الفلك العظيم، فلك الخلافة الإسلامية، فتناثرت نجومه وكواكبه، وانطفأت شمسه وأظلمت نيراته، وعبست مكة للقسطنطينية وبسمت للندن، وصافحت الحلفاء، وقابحت الخلفاء، وولد استقلال سورية في القصر المنيف على بردى، ومات طفل في الصحراء القاحلة من ميسلون، وكان الانتداب وكانت ليلاته الحالكات
وذهب جيل من الناس كان يعرف الباشا حق المعرفة، وجاء جيل جديد ينكره أشد الإنكار
فنفض الباشا يده من كل شيء، وانحدر إلى الشارع الأعظم على سفح الجبل، فجلس على حجر قبالة القصر الذي بناه، وكان صاحبه ومولاه، فطرد الليلة عنه كما تطرد الكلاب. وأسلم رأسه إلى كفيه، وراح يفكر في غير شيء. . .
فما نبهه من ذهوله إلا ولد يقفز بقبقابه على بلاط الشارع، فاستوقفه يسأله:
- ما اسم هذا الشارع يا ولد؟
فارتاع الولد وفر، حتى إذا ظن انه قد فاته، صاح به:
- ألا تقرأ اللوحة يا أعمى؟ هذا شارع ناظم باشا
فابتسم الباشا ابتسامة صفراء وعاد إلى صمته، وهبت الرياح فلم تلبث أن أنشأت سحاباً حجب القمر، فشمل الشارع ظلام رهيب
ومر رجل فألقى على الباشا نظرة واحدة، ثم سار في طريقه ينحدر في طريق البساتين، حتى إذا ابتعد عن العمران رفع عقيرته يتغنى بصوت شجي محزن:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة ... كذلك عضتنا السنون الغوابر
وناظم باشا يصغي إليه، وقد هاج في نفسه عواطف هائلة كادت تنسف كيانه نسفاً، حتى